في البدء نشير إلى أنهلا يهمنا في هذا الموضوع الاستغراق في عرض وجهات النظر حولمفهوم "الشباب"، والذي يختلف سواء حسب التخصصات أو على صعيد كل تخصص على حدة، بل إثارة الانتباه إلى ما تختزنه دلالة هذا المفهوم من ارتباط بالتنشئة والإعداد والفتوة وقوة الحماس والاندفاع في الإلتزام بالمبادئ التغييرية الجديدة والدفاع عنها إلى أقصى حد ممكن. لهذا تستحق مرحلة الشباب أن تبقى أزهى وأمثل مراحل العمر للتدريب والإستيعاب والتربية من أجل تحقيق اندماج لطيف وفعال وإيجابي لهذه الفئة في الحياة الاجتماعية. إن الشباب المغربي أصبح أكثر انفتاحا على عالم ما بعد الحدود. فلماذا لم تنفتح شريحة عريضة منه أسريا وجمعويا ومجتمعيا و..؟! فالبعض أصبح يعيش شبه عالم افتراضي بفعل تحول بعض الوسائل والآليات عنده إلى ما يقرب من الهدف(الانترنت مثلا)، وتعمل أسباب متعددة على دفع الكثير من الشباب إلى النزوع نحو الفردانية، من مثل العوامل الأسرية(التفكك الأسري مثلا) والمدرسية والمجتمعية والسياسية ... أضف إلى ذلك أخرى خارجية مرتبطة بغزو نمط الحياة اللبرالية للمجتمعات الإسلامية عموما. مما يفرض ضرورة الجد والإجتهاد في نشر ثقافة الأمل والخير والنجاح بين صفوف أبناء الشعب الذين تنتظر منهم أمتنا كبير الإنجازات، والتعريف بمظاهر التألق والإعتدال والإصلاح قدر المستطاع. من المعلوم أن من أهم مرتكزات الإصلاح والتنمية والإقلاع الحضاري في تجارب الأمم عبر التاريخ هو الأساس البشري وخاصة الشباب. وفضلا من الله تعالى ونعمة فإن العالم الإسلامي يزخر بطاقة فتية معتبرة. وبالمغرب، تفوق نسبة الشباب ما بين 15و24 سنة 20٪ من مجموع الساكنة،وتصل هذه النسبة إلى 76٪ فيما يخص المغاربة الذين لا تتجاوز أعمارهم 34 سنة مما يشكل ثروة بشرية هائلة إذا وجهت واستغلت طاقاتها استغلالا إيجابيا، وتمت تنميتها وتربيتها وتكوينها بشكل يراعي أبعاد شخصيتها وانتماءها الثقافي. وللأسف فأغلبية الشبابيعيشون ثقافة وأخلاقا ومبادئ غير تلك التي تنتمي إلى أصالتهم وحضارتهم، بفعل غياب - أو على الأقل ضعف- سياسة ثقافية توجيهية فاعلة وفعالة، على الصعيد الرسمي أو الشعبي، واعية ومتفهمة لهموم الشباب واهتماماته وتطلعاته وأزماته القيمية والفكرية ... ثم بفعل التأثيرات السلبية الخطيرة للعولمة التي تهدف إلى تصدير ثقافة وقيم الدول الرأسمالية الإمبريالية الغالبة، وتحرض على نشرها وتعميمها بمختلف الوسائل، وتحتقر الثقافات الأخرى باسم خرافة الثقافة الكونية. إن صانعي وموجهي العولمة قد ساهموا في عرقلة اندماج الشباب في مجتمعاتهم، وذلك من خلال بحثهم عن الربح كمحرك لعملية الإنتاج تحت غطاء وخدعة الإنفتاح على الفنون والعلوم والثقافات العالمية، وبالتالي تم إيهام الشباب بالتربع على عرش النجومية بسرعة وفي لحظة بدون معلم! وتحقيق الذات بمجرد استهلاك المنتوج الفلاني أو لبس"سراويل هداوة" أو تسريحة شمبوان كذا أو ... وهيهات!فلم يكن ذلك إلا لترويج تلك السلع وإشباع نهم وجشع أصحابها. لا ننسى أن هناك عوائق مجتمعية أيضا، تتمثل في تفشي ثقافة الرشوة والفساد والمحسوبية، وحلول الولاء الصوري المنافق محل الكفاءة والتفوق، وضعف إتاحة الفرص للبعض لمواصلة دراستهم، وهشاشة مؤسسات التكوين والتدريب التي تحتضنهم. كما أن مدارسنا التربوية فقدت الكثير من معانيها، واقتربت في حلها لمشاكل الشباب إلى العلاج بالطوارئ، مثل استعمال المسكنات عند الطبيب، أو الميل للمقاربة الأمنية المبنية على الزجر والإتهام وفرض العقوبات. هذا دون أن نغفل العوائق الأسرية والتي ربما تكون الأخطر، من مثل التفكك الأسري وجهل الوالدين وغلبتهم على أمرهم ..! إن العوائق الاجتماعية والأسرية لا تخرج إلا شبابا ذوي شخصية ضعيفة وذليلة وخانعة، لا تهتم لا بالفكر والتعلم ولا بالإرتماء في تجارب الحياة، وتحب السكون والظل ولما لا الشيخوخة الروحية و الموت المعنوي! فالتهميش(الفقر والبطالة والفراغ ...) الذي يكون أغلب ضحاياه من الفئة التي هي في عمر الزهور! يساهم في التعامل مع الواقع بنفسية المقهور المترجم في شكل رد فعل سلبي(الإنتحارأو التعاطي للمخدرات أو العدوانية ...) ونخشى أن تتحول حالات خطيرة معزولة إلى ظاهرة اجتماعية يصعب استيعابها بفعل سياسة عدم الإكتراث ؟ وهكذا فإن تكوين وإعداد الرجال مرتبط بالنسق الاجتماعي والثقافي للمجتمع، فالمدرسة مثلا مكملة وقنطرة بين الأسرة والإندماج في الحياة العامة، ومن هذا المنطلق من العيب أن تقتصر في اهتمامها بتأهيل المتعلم على الإنخراط في سوق الشغل، دون اهتمامها باندماجه الشامل المستديم في كل المناحي والمجالات. وأقولها بمرارة، كم هي حاجة مدرستنا إلى التأهيل حتى ترفع من عطائها فيما يخص وظيفتها التربوية والتكوينية والتثقيفية، كي تزاوج بين وظيفة تشكيل الهوية وبناء الذات لدى المتعلم من جهة، واندماجه الإنسيابي في عالم الشغل إن وجد من جهة أخرى. وكي نتجوز فعلا مقولة "التعليم قطاع غير منتج".وما نقوله عن المدرسة، نقوله عن الجمعيات والمربين والدولة... فواجب الحكومة مثلا تعزيز ومراعاة مبدأ تكافؤ الفرص وتوسيع مجال فرص الشغل وتقديم الأمثل فالأمثل ... لعل ذلك يكون قريبا !ويكاد يجزم المرء أن الحكومات نفضت أيديها من قضية تأهيل الشباب إلا ما نذر من أولي العصبية القبلية والحزبية المقيتة والرشوة، ومقابل ذلك تم وسع مسؤولونا هداهم الله المقاربة الأمنية التي تكاد تمتد إلى كل شيء، وأصبح لزامًا على كل شاب أن يخطط طريقة في الحياة بنفسه. لكن وإن كنا قد أكدنا أن حل مشكلة الشباب في يد الشباب أنفسهم ، فإننا أن نؤكد أن ذلك لا يلغي أنهم يحتاجون إلى مساعدة الجهات الحكومية وغير الحكومية لعدم قدرتهم على التجديف بمفردهم، ولتمكينهم من إمكانية مناقشة أفكارهم وتدارس مشاكلهم، وبحث الحلول المناسبة في ما يمنحهم المساهمة في التغيير والتنمية المحلية. في وقت نعجب فيه من تهافت الدول على احتضان أطرها وأطر بلدان أخرى، نلحظ في بلادنا العزيزة "فائضا" في هذه الأطر، أو بصيغة أخرى كسادا في توظيفها بما يخدم ويدفع بالتنمية إلى الأمام، بل إهانتها من طرف "كائنات مدمرة" لا خلاق لها ولا تستجيب لا لعقل أو ضمير، بل لتعليمات ولأمر يبشرها بسحق كفاءاتنا المعطلة التي لا ذنب لها في أرض الغرائب سوى أنها آمنت بمقولة "العلم نور والجهل عار"، وآلت على نفسها رفع تحديات كالجبال للوصول إلى درجات في التحصيل العلمي لم يصل إليها عدد من المسؤولين،ورفضت في إباء مقولة: "حاولوا أن تكونوا حميرا أيهاالرجال حتى تسيروا إلى المكانة التي لا يمكن بلوغها بالمعرفة والجهد بل بالتلون والنفاق!". لنعلم جميعا أن تسهيل الإندماج الشبابي ليس مناسباتيا واستعراضيا عبر محطات للبهرجة والتقاء الصور التذكارية ليس إلا، بل إنه عمل ميداني مستمر ومضني، بأهداف محددة وبإرادات ترفع التحدي وتبشر بروح الأمل والنجاح وإثبات الذات بالأخلاق والقيم والعلم لا بالتقليد، وبالتألق والإعتدال والرشد لا بالإنجراف وراء السراب والخدع والمصائد. وأقول أخيرا، نحن في انتظار سياسةتعمل على تحسيس وتوعية الشباب بموقعه ومكانته ودوره الريادي، وجعله أكثر قدرة على المشاركة الإيجابية، وأكثر فهما لواقعه الاجتماعي المعاش وأوضاعه ومسؤولياته، وليس ذلك "الطراز القديم" من البرامج التنموية الوطنية الخبيرة في صناعة الحلول الترقيعية التي لا تسمو إلى مستوى الإنتظارات المرجوة منها، والتي إنما هي أسماء ليس لنا سوى ألفاظها أما معانيها فليست تعرف! إنه لن تتم حماية البلاد وتحصينها من التفكك الداخلي والأخطار الخارجية إلا بحماية وتحصين شبابها والإصغاء لأنين معاناته، فهو محتاج دوما إلى من يعتني به ويعبر عن طموحاته ويهتم بإرواء ظمأ تساؤلاته وهواجسه ويطمئن قلقه. ولقد علمتنا الحضارة الإسلامية مقولة رائعة مفادها أن أبناءنا مخلوقون لزمان غير زماننا، وبالتالي وجب تمكينهم من سلاح زمانهم الذي هو بالتأكيد غير سلاح زماننا في كثير منه. إن حاجتنا اليوم ماسة وملحة لإيجاد الإنسان الكبير قبل إيجاد الأستاذ الكبير والطبيب الكبير والمهندس الكبير ... والأمر يبدأ بالشباب ثم الشباب !