الوزير الراحل إدريس البصري رحمه الله كان يقال عنه والعهدة على من عايشوا فترة فتوته أنه الكل في الكل داخل مملكة الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله ، وزير داخلية يدخل الكل أمامه في سوق رأسه ، ووزير اتصال وإعلام يعرف من أين تؤكل الكتف ، ومستشار من الطراز الخطير ، وحارس حدود يعرف متى تلبس قفازات المناورات ومتى تنزع ، ومهندس عرف كيف يوزع الخريطة السياسية داخل المملكة ، ولاعب غولف رمى عددا ليس بالهين من المناضلين والشرفاء والأحرار في حفر المعتقلات والسجون ، وعبد مأمور اعترف في آخر أيام حياته بأن السواد الذي جره على سماء المملكة وأن الرصاص الذي انطلق من بنادقه وأن العهد السيئ الذكر الذي ارتبط باسمه كل ذلك وغيره مما نسب له ما هو إلا مهام كلف بإنجازها فأحسن تنفيذها معيدا بذلك سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي في مغرب الحسن الثاني . تذكرت هذا الرجل / الوزير بعدما سمعت أحد سائقي سيارات الأجرة يترحم عليه وعلى أيامه ، فلما سألته عن سبب على أيامه ولياليه ، قال بأن إدريس البصري كان " يأكل ويترك لغيره ما يأكل ، أما هؤلاء يقصد وزراء اليوم فيأكلون لوحدهم ولا يتركون لغيرهم أي شيء يؤكل " ، هذا الكلام وغيره من الكلام المتشابه والمشتبه به دفع بنفسي الأمارة بالسوء إلى وضع مقارنة بين تلك الأيام وهذه الأيام ، فوجدت بعد انصياعي لهذا الأمر أن الظلم أكبر الظلم أن نتهم الأيام بما ليس فيها وأن ننعتها بما قد تنزعج منه الحقائق والوقائع ، فالأيام هي هي ، يسير فيها الناس إلى الأمام ونسير فيها نحن إلى الوراء ، يسيرها المسؤولون الذين يقدرون حق المسؤولية لخدمة أوطانهم ومواطنيهم ، ويستغلها مسؤولونا أبشع استغلال فيجعلون من أصفارهم أرقاما ثقيلة في الميزان صعبة النطق على اللسان ، ولا يرون في المواطن إلا مطية للمرور إلى خيرات وطن ظل كُتّاب الأعمدة من زمن بعيد يبشروننا ب " التصبح " على خيره وجماله وديمقراطيته وعدله وكرامته وإنصافه وحسن منافسته للأوطان الأخرى لكن دون جدوى تذكر . نعم مات إدريس البصري ، وجاءت من بعده شخوص مرت على مآسينا ومشاكلنا وأزماتنا مرور الكرام لتفسح المجال بدورها لوجوه جعلت من نفس المآسي والمشاكل والأزمات سلما للوصول إلى وزارات سماتها الكبرى أنها لا ترفع منصوبا ولا تنصب مرفوعا ولا تنقذ مجرورا ، ولا تتحرك إلا بأمر من فوق ، ولا يأتي منها إلا قوانين ومدونات تجعل من مصلحة الوطن والمواطن آخر أمر يفكر فيه . فكأن إدريس البصري ما مات ، وكأنه حي يصول ويجول في الوزارات والإدارات ، وكأني بمن شاركوه في كل شاذة وفاذة ما عزلوا من مناصبهم وما زحزحوا عنها قيد أنملة ، وانظر يمينا ويسارا هل ترى إلا عهدا قديما يرخي بظلال رصاصه علينا ، وأرجع البصر هل ترى من تغيير يتجاوز الوجوه والأشكال ويمس العمق ويصل إلى الجوهر ، ثم أرجع البصر غير ما مرة فلن ترى إلا ما يدمي الأفئدة ويعمي الأبصار ، ولن تجد إلا حاضرا بصيغة الماضي يبني المستقبل للمجهول ويمضي بنا إلى ما وراء السكتة القلبية . ورب قائل إنني أضع على عيني نظارة من النوع الذي لا يري صاحبه إلا ظلاما ، أو أنني عدمي لا يعرف من الألوان إلا الأسود الممزوج بالقتامة القاتلة ، لكن نظرة واحدة إلى الواقع المعاش تكفي لتؤكد صدق ما نقول وحقيقة ما ندعيه ، فالديمقراطية المنشودة لهذا البلد حادت عن سكة الصواب وانحرفت عن الجادة لترتمي في أحضان استبداد يمارس كل يوم على مواطنين تنتزع منهم مقومات المواطنة إن هم قرروا عدم التوجه للإدلاء بأصواتهم في انتخابات صورية تسيرها وزارة الداخلية وينتج عنها حكومة مشلولة تتكون من معينين من فوق ومن عناصر حزبية ساهمت في تكريس تبعية الحزب للوزارة المذكورة وتسخيره في خدمة مصالح الزعيم والمؤسس وحاشيتهما ، والأحزاب التي من المفروض عليها أن تتنافس ببرامجها حول من يحفظ للديمقراطية مياه أوجهها تراها مع مطلع كل فجر تتسابق نحو الظفر بلقب برنامج الملك ولا تلتفت إلى الديمقراطية إلا إذا جاءها المخاض وأرادت أن تنجب بعد حمل عسير أحزابا سرعان ما تحبل بدورها لتلد أحزابا أخرى ، وحين تزيغ الديمقراطية عن الصراط المستقيم ، وحين يصبح الحماة مجرد " حرامية " فمن الطبيعي أن يكون الاقتصاد اقتصاد ريع وتكون الثقافة مبنية على الخضوع والركوع والخنوع والتزمير والتطبيل لمن يملك القوة والجاه والنفوذ ، ومن الطبيعي أن يقوم التعليم على أسس التخويف من التدخل في أمور الساسة والسياسة ، ومن الطبيعي أيضا أن يصير العدل جورا وأن يصبح الظلم عدلا وأن تنقلب الموازين فيكرم الوضيع ويسجن الحر الشريف ويحتفى باللص والسارق ويمرغ في التراب وجه كل من لا وجه له في دهاليز الوزارات والإدارات ، وهكذا يكون تحصيل الحاصل تقوقع في الرتب المتدنية على كل الواجهات بين أمم الدنيا ، وتقارير دولية ومحلية تدين وتندد وتحتج مع كل سنة جديدة . " كأنه ما مات " ، حقيقة لا افتراء ، وواقع لا يرتفع إلا ليسقط على رؤوس المواطنين ليذيقهم من وبال الصمت على الأوضاع والرضى بالأحوال ما لا يطيقون ، حتى إذا ما هموا بالنطق بعد سوط عذاب أخرجت لهم دوائر الأمن تهما تشيب لهولها الولدان وتخجل من بقائها البلدان . " كأنه ما مات " ، و " كأنه ما كان " ، فاعتبروا يا أولي الأبصار واتقوا غضبا آت لا محالة من شعب لم يعد يرى في عدم الوفاء بالوعود و عدم ترجمة الشعارات إلى مشاريع ملموسة ضحكا عليه وعلى أبنائه ، والشعب المغربي يستحيل الضحك عليه لو تعلمون . [email protected]