يعزى تلكؤ العملية السياسية في المغرب وما يستتبعه من إعراضٍ للشعب عن الانخداع بالبهلوانية السياسية والديماغوجية الانتخابية إلى استفحال العاهات المرَضية التالية: عاهة الوراثة في الحُكم: وهي عاهة خطيرة تتعارض مع روح ما جاء به الإسلام من أصول كبرى، كأصل العدل وأصل الشورى، وعن هذين الأصلين تتفرع قاعدة: الحرية في اختيار الحكام، ولأن "البيعة للأولاد سُنة ملوك العجم"، وتتعارض مع الديمقراطية التي لا معنى لها إن حُرم الشعب من اختيار من يحكمه بطريقة حرة ونزيهة. النظام السياسي الوراثي لا يحده الدستور المكتوب ولا تؤطره القاعدة القانونية، فهو تاريخيا وواقعيا يحتكر السلطة والثروة والنفوذ في كل المجالات دون أن أي نوع من المسؤولية أوالاعتراض أوالمحاسبة، ويجمع العقلاء على أن سبب الفساد في العالم العربي عموما هو الفردانية في الحكم، التي لا تأخذ شرعيتها من الأمة، وإنما فقط من الآلة القمعية الإكراهية التي تعلو على الشرع والعقل والحق والعدل والقانون (حكم السيف). وعن هذه العاهة تتفرع باقي "المطبَّات" التي تثقل كاهل الشعب المغربي. وبهذا الصدد يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: "الفساد في الحكم هَدم أخلاق الأمة، ونخر في اقتصادها، وبدد ثرواتها، وشرد المستضعفين، ودفع الفتيات البائسات إلى سوق البغاء، وخطف لقمة العيش من أفواه الأطفال، وتسبب في تفشي البطالة والمخدرات والمرض والخمور والعهارة ومدن القصدير والرشوة والمحسوبية وطابور المشاكل" (1). والمسئولية الأولى على عاتق المسئول الأول، وكما قال المستشار الملكي رضا كديرة: "السلطة العليا في المغرب يملكها الملك وحده"(2) لا شريك له. له المال وله المُلك، وهو على كل شيء مهيمن! عاهة الدستورانية: تُوضع الدساتير للحد من سلطة الحكم الفردي المطلق، إلا أن المغرب يشد عن هذا القاعدة، ليجعل مهمة الدستور هي تثبيت وتكريس الفردانية/الفرعونية في السيطرة على الحكم. وهو ما يُعرف بظاهرة "الدستورانية" أي استعمال الدستور الممنوح (العاهة) للاستمرار في وضعٍ غير دستوري، لم يشارك في وضعه الشعب ولم تراعَ موافقته، وبالتالي فهو لا يعنيه قانونيا ولا سياسيا في شيء. يقول الدكتور المهدي المنجرة مبينا استحالة التغيير من داخل نظام المخزن: "ما دام موجودا عندنا هذا الدستور وهذا النوع من البرلمان لا يمكن أن يحدث التغيير...المخزن والحرية وحقوق الإنسان تتناقض، من غير الممكن أن يتعايشوا" (3) هذا الدستور الممنوح، ينص في الفصل23 على أن: "شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته"، وفي ف24 على: "يعين الملك الوزير الأول. ويعين باقي أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول. وله أن يعفيهم من مهامهم! ويعفي الحكومة! بمبادرة منه أو بناء على استقالتها "! فشخص الملك فوق القانون والشرع والشعب! فلِمَ الدستور أصلا؟ عاهة الشكلانية في الحكومة: هناك خاصية مشتركة بين جميع الحكومات المغربية وهي أنها لا تَحكم، وغير منبثقة عن أغلبية برلمانية حقيقية (فسيفسائية)، وغير منتخبة أصلا، وضعيفة، لا سلطة لها سوى تنفيذ مخططات فوقية وتصريف أعمال لحكومة سامية يسميها المراقبون ب"حكومة الظل" تطلع بملفات كبرى مثل: الصحراء، التعليم، القضاء، الداخلية، الخارجية، الأمن...ميزانية كذا وكذا، وإلا لماذا تتأسس عشرات اللجن الملكية لتقوم بما يجب أن تقوم به الحكومة؟ الحكومة الفعلية لا علاقة لها بالانتخاب ولا بالتصويت ولا بالأحزاب ولا بالأغلبية. هي مجموعة هيئات ولجن تسير الشأن العام في تنسيق تام مع القصر، سواء تقاطعت مع الحكومة الشكلية -التي توكل لها مهمة تصريف أعمال- أم اختلفت معها. بل حتى الحكومة الشكلية تخرج من رحم المخزن! ولا يتصرف فيها الوزراء إلا كموظفين ساميين برواتب عالية وامتيازات مادية. فأية كثافة هذه من الجُبن تجعل بعض الناس يتجاوزن الحديث عن أصل الداء وشر الإبتلاء إلى الحديث فقط عن الأعراض والأبعاض؟ يرون الدار (دولة المخزن) متشققة وآيلة للسقوط وهم يتحدثون عن نوع الصباغة! وهل تمنع ألوان الصباغة سقوط الدار التي على غير أساس؟ عاهة العبثية في الانتخابات: الانتخابات المغربية سمٌّ في دَسَم، متحكم فيها سابقا ولاحقا، وموضوعة على مقاس استمرار الوضع في الحكم على ما هو عليه، وتهميش القوى الحية بالبلاد ومحاصرة رأيها. ولا تؤدي إلى تحقيق التداول على الحكم، وهي في هذه الظروف والشروط عبارة عن سوق لترويج السراب والكذب والاحتيال وشراء الذمم وتمديد عمر الأزمة. هي باختصار تجارة خاسرة. للقصر فيها الجمل بما حمل. عاهة الصَّورنة في البرلمان: البرلمان في المغرب لم يُصنع لأداء وظيفته السياسية الديمقراطية التنظيمية التشريعية، وإنما وُضع ديكورا وقناعا ليقال للغرب إن لنا برلمانا مِثلكم. فهو برلمان صوري فاقد لصلاحياته. برلمان يتنافس أعضاؤه على طرح الأسئلة الهامشية والتراشق بالألفاظ النابية (سوق)...وكم يضحك من ينظر في تقارير الحصيلة البرلمانية الحزبية ليجد أن ما يتفوق به الحزب الفلاني من إنجازات عظيمة هو: طرح أكبر عدد من الأسئلة"!!!، هذا فضلا عن تورط بعض البرلمانيين في المتاجرة بالمخدرات والتزوير والرشوة... عاهة التشرذم الحزبي: استطاع المخزن أن يروض الأحزاب لصالحه وفق المبدأ الماكيافلي المَقيت: "الغاية تبرر الوسيلة". حتى فاق عدد أحزابنا عدد أحزاب الصين! ونستثني طبعا جميع الفضلاء الذين حافظوا على نظافتهم. و"النظافة من الإيمان". حتى أمست جل أحزابنا متكيفة مع رعونة المخزن إلى حد التماهي معه، وأغلبها إن لم نقل جميعها تعرض للانشقاق والانشطار والتصدع... أما التعددية التي تقتضيها الديمقراطية فهي في أحزابنا فارغة ولا يصح علميا وواقعيا أن نسميها تعددية سياسية. جلها توالي المخزن وتفكر بمنطقه وتُسبح بحمده وتُروج لسلعته. إن تعدد الأحزاب في بلادنا لا يعني التنوع والاختلاف في التوجهات والتصورات والبرامج والمشاريع التي تجعل المنافسة ذات جدوى وإنما هي مجرد "ثكنات سياسية" بتعبير الدكتور محمد ضريف. ناهيك عن غياب الديمقراطية الحقيقية داخل الهياكل الحزبية نفسها فبالأحرى أن تشع منها في المجتمع. عاهة هَرْوَلة النخب: وتتجلى في تخلص أغلب العلماء والمفكرين والمثقفين من ثقل المسؤولية أمام الله ثم أمام الأمة في الصدع بكلمة الحق مدوية، "أحب من أحب وكره من كره". وسكوتهم المريب عن الباطل. ويا ليتهم سكتوا بل برروا الظلم ورقصوا في حِجْر الظالم وتمتعوا بعطاياه المسمومة. نُخب متمالئة تقيس جدية العمل السياسي بالجاه والمنصب ورضا السلطان! أو الحضور في استقبال أحد الضيوف بالمطار! أو رسالة تهنئة في المناسبات! أو منصب مُدر للمال وللنفوذ! شعارها السري: "أنا متمخزن إذن أنا موجود" أو بترجمة أفضل: "تَمَخْزَنْ تُوجدْ". ولعل هذا ما عبَّر عنه جُون وُتر بوري ب "الهوية الظرفية" التي تتجنب نقد الحاكم وتعمل على الحفاظ على الوضع القائم حيث توجد مصلحتها حتى ولو كلفها ذلك رفس المبادئ وتدنيس الأخلاق. عاهة البيروقراطية الإدارية: عشش وما يزال الفساد في جميع إداراتنا، حتى أصبح العدو الأول للمواطن هو الإدارة الفاسدة التي تمتص دماء المواطنين وهي تبتسم! عامرة بالزبونية والرشوة والمحسوبية والتماطل والمنع والقمع والتعطيل والإتلاف. في الصحة، في الأمن، في القضاء، في الدرك، في الجمارك، في السفارات.... هذا مع استحضار عاهة أخرى يحملها النفوذ الإعلامي للملأ المستكبر (شبكة المفسدين) الذي يُسَوق الأوهام في صور الحقائق، وهو يعْلم أنها تروِّج أكاذيب "صالحة" فقط للواجهة الخارجية وتزيين قبائح النظام، وضمان الثراء الشخصي، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. مما يعطينا اقتناعا جازما بأن لا أحد يستطيع فعل شيء يذكر من خلال مؤسسات مصنوعة بهذه الطريقة مهما صلحت نيته. واحد، اثنان: إذا كان الفساد جوهريا ومؤسسا ومحميا فإن الحل السياسي المنطقي ليس هو الذي يُقدم في شكل ترقيعات جزئية وحملات موسمية، وإنما هو الذي يلامس بل ينفذ إلى جوهر المشكل ويقترح مدخلا جذريا يقطع مع كل أنواع التسيُّس البهلواني الذي يؤبد الأزمة ويعطل الإصلاح، والمنطلق في نظري هو إعادة النظر في المدخل السياسي أولا ثم الدستوري (المنظم للعملية السياسية برمتها) ثانيا: فعلى المستوى السياسي يجب على الحكام أن يعوا مسؤوليتهم أمام الله تعالى ويعيدوا للأمة حقها في اختيار من يحكمها بطريقة شرعية علنية يشارك فيها الجميع، وأن يكونوا منطقيين مع شعاراتهم فيرفعوا الحيف عن جميع الهيئات السياسية -التي لا تتبنى العنف ولا العرقية ولا الإلحاد- لبناء تعددية سياسية حقيقية عوض التعددية الصورية المصنوعة من فوق. وعلى المستوى الدستوري يجب إلغاء دستور الفرد وتعويضه بدستور الوطن الذي يختاره الشعب، بدءا باختيار من يصوغه كمشروع إلى التصويت عليه إلى اختيار رئيس الدولة. إلى باقي المؤسسات. وإلا فهي هرقلية قوقية ليست من الإسلام وليس الإسلام منها، ليست من الحكمة وليست الحكمة منها. .............................................................. هوامش: 1-عبد السلام ياسين، "العدل: الإسلاميون والحكم"، ص 432. 2-جاك روبير ( Jacques Robert) في "La monarchie marocaine" 3-جريدة المساء عدد 52