مذكرات خاصة بموقع مرايا بريس الحلقة الثالثة تراءى لي بيتنا الآهل المقفر، وبدا بابه الخشبي العتيق، الذي حسبته دوما برزخا يفصل بين عالم البيت الكئيب وعالم الزقاق المرح وحائلا مقيتا يحول بيني وبين اللعب، بدا حزينا مشفقا وكأنه ينعي براءتي الذبيحة. أتراه كان أبي محقا حين غلق خلفي الأبواب؟ هل كان يدرك أن بعد الباب شر مستطير يقول "هيت لك"؟ وهل كانت أمي على صواب حينما كانت تحكم وثاق سروالي كلما هممت بالذهاب "للمسيد"؟ أقصى ما كانت تخشاه المسكينة هو أن تمتد أيادي الصغار العابثة لما تحت السروال لتعاكس أشيائي الصغيرة، ولم يخطر ببالها لحظة أن يستبيح حمى صغيرتها حامي الحمى.. بخطى متثاقلة ونبضات متسارعة توجهت نحو بابنا، تناهى إلى سمعي صوت صراخ.. شجار كالعادة.. فتحت لي الباب أختي وجرت مسرعة.. جدتي، تلك العجوز الشمطاء، تشد أمي من شعرها وتوسعها ضربا، وهذا أمر درجت عليه جدتي كلما بدا لها أن أمي تحتاج درسا في قواعد "السمع والطاعة"... لم يلق لي أحد بالا،ولم ألق بالا لأحد... انزويت في ركن من أركان الغرفة، ضممت فخداي لصدري وكأني أحاول لمّ شتات صدمتي، لم يُطاوع النوم جفناي، كانت تتراءى لي لحظات افتراس الشيخ الفقيه للحمي الغض، ولُهاته حينما كان ينهش براءتي، ورائحة عضوه النتنة وكأن ماء الوضوء لم يزر أعتابه يوما، وتلمضه بشفتيه الغليظتين، حينما بلغ لحظة الذروة، وحينما لفظني من بين مخالبه، بنظرته الكابية، ثم وضعه لأصبعي يده الخشنة حول وجنتي قائلا بتحذير مُهدد: "عنداك تكَولي لشي حد هاذ شي لي وقع، يلا دويتي غادي نقبرك" استعدتُ كل تلك اللحظات البشعة بفؤاد مصعوق، ولم أذكر في أية لحظة غلبني سلطان النوم، حين رُحتُ في نعاس مُتقطع عامر بأبشع وأفظع الكوابيس. أذكر أنني رأيتُني أُدفن حية بعدما ضُبطتُ من طرف أبي أكشف عما تحث سروالي لصبية الحي، ساقني أبي من ياقة قميصي حتى اختنقت أنفاسي، وحينما أطلقني أمام مشهد قبور لا ينتهي، رمى بي في حفرة قبر حديث مُشرع، ثم أهال علي التراب حتى انقطع صراخي، في تلك اللحظة الرهيبة استيقظت متعرقة مرعوبة، كان حينها ضوء النهار قد أشع، أدركتُ من برودة الطقس أنها ساعة مُبكرة من يوم جديد، على الأرض وأهلها، لكنه كان بالنسبة لي أنا حفرة عميقة شاسعة بلا أي مدى منظور بين عالمي: الجنة والجحيم.. تناهى إلى مسامعي صوت القرقعة الفجرية لأبي كما في كل وقت أول صلاة في اليوم، تملكني شعور خوف لاسع، واجتاحتني مشاهد عقاب كالصواعق، بدا لي أن أنهض من فراشي وأذهب رأسا إلى أبي فأشكو له الشيخ وما فعله بي من فظاعة أمس، لكن شعور هلع سمرني حيث أنا، وذلك بالتحديد حينما استحضرتُ سيرة غضبه العاتي مهما كان السبب تافها. تذكرتُ بالتحديد طبق المعكرونة الساخن الفائر الذي استقر على وجه أمي، منذ بضعة أيام لا لشىء سوى لأنه وجده كما قال صارخا: أش هاذ المصيبة؟ واش هاذي شعرية ولا قديد؟ علاش ملحتيها آ الكارثة؟" وبحركة باغتت أمي بالرغم من الوضع الدفاعي الذي اتخذته حينها، ليذهب طبق المعكرونة بكامله اتجاه وجهها، انكمشتُ على نفسي بذعر مُستفحل.. ظللتُ مستلقية في مكاني وقتا خلته الدهر بأكمله، وما فاقم هذا الشعور المُؤلم، أن وخزات ما بين فخذي استفاقت من جديد، جاعلة مني كُتلة ألم بلا حول ولا قوة. تناهي إلي نداء أمي وهي توقظ أخي: "نوض راه مشى الحال على الجامع" ثم قصدت مكاني، كُنت أسمع خُطواتها تقترب وكأنها قرقعات أصوات أحذية كتيبة الإعدام.. أمي التي ظلت دوما ملاذا كلما عز الملاذ تحول إقبالها علي إلى تلك الصورة المُمعنة في القسوة. "شهرزااااااااد.. نوضي حبيبتي" انهمرت حينها دموعي حرى على خدي، تركتُ لها العنان عساها تغسل رعبي، وتحرر جسدي من جموده... وأدرك شهرزاد المساء.... [email protected]