بمجرد أن يصدر المجلس المجلس الأعلى للحسابات تقريره السنوي كما جرى العمل بذلك، يتفجر النقاش وتشتد حدته حول مضامينه، التي تعري على حجم الفساد الإداري والمالي،الذي تعيشه مؤسسات الدولةوتتخبط فيه... لكن ما أن ينتهي الكل من إفراغ ما بجعبته،ويستنفد المجتمع المدني كل بيانات الاستنكار والإدانة ومطالبةالدولة بمتابعة المتورطين ومسائلتهم أمام القضاء لمحاكمتهم بسب الجرائم المالية المقترفة من طرفهم...وتجف أقلامحراس السلطة الرابعة داخل المجتمع...حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة، ويعودمعها ناهبوالمال العامإلى استئناف جرائمهم الاقتصادية، ويرفع الإحراج عن القضاء والأحزاب والبرلمان،كثالوث يفترض فيه حماية المال العام ومراقبته من مصاصي دماء هذا الوطن،الذين راكموا الثروات بالبنوك السويسرية وأمنوا مستقبل حفدة حفدة أبنائهم، وحكموا على ملايين المغاربة بالبؤس والجهل والحاجة والعطالة بشوارع العاصمة الرباط،التي باتت تعيش على إيقاعات فلكلور المعطلين وليس موازين طيلة فصول السنة. إن حجم الاختلالات المالية التي يعرفها المغرب كل يوم وليس كل سنة،وعدم قدرة مؤسسات الدولة من قضاء وبرلمان وأحزاب، على محاكمة ناهبي المال العام فيه خرق واضح لسلطة القانون وقوته على الجميع، لا يمس فقط بسمعة المؤسسات الدستورية التي ينبغي عليها أن تلعب دورها كاملا في هذا الإطار، بل يمس بسلطة الحق والقانون داخل المجتمع، ويمس بصدقية الخطاب الذي تروجه الدولة في علاقتها بشركائها الأجانب. اليوم شركائنا الأوروبيين والولايات المتحدةالأمريكية،يقدمون لنا الكثير من المنح والمساعدات ويراقبون كل المشاريع التي ينخرطون فيها، سواء تعلق الأمر بالمنح أو المساعدات التي تقدم لنا في اطار مشروع ميدا، أو تعلق الأمر بالمخصصات التي يمنحها الكونغرس الأمريكي للمغرب بحكم وضعيتهكحليف استراتيجيان على المستوى الأمني أو الاقتصادي. إذن من يعتقد بأن تسامح الدولة مع مرتكبيالجرائم الاقتصادية،وعدم تعريضهم للمسائلة القضائية على ما يقترفوه من جرائم،لا يمكن أن تؤثر على العلاقات المميزة للمغرب مع شركائه الأوروبيين والغربيين، فهو مخطئ ولا يحكمه منطق المستقبل. الاتحاد الأوروبي والغرب، لا يوقعان شيكات على بياض، فكل مساعدة دولية تكون محكومة بدفتر تحملات، وبمشروطية سياسية ترتكز على مبادئ الحكامة الجيدة واحترام الحق والقانون إذا كان نهب المال العام والتستر عليه، أصبح جزءا من ثقافة هذا المجتمع،وأصبحت طريقة التعامل معه تتم بانتقائية خطيرة ومحكومة بحسابات سياسوية ضيقة،فالمؤكد أن ثقافة الأوروبيين مختلفة تماما عن ذلك. إن اكتفاء الأوروبيين الآنبالملاحظة فيما يخص المشاريع التي انخرطوا فيها مع المغرب في مجالات الدمقرطة وحقوق الإنسان ومكافحة الجريمة المنظمة،ليس معناه أنهم متسامحين وغير معنيين بالمحاسبة. اليوم بدأت أصوات كثيرة من الخارج تنتقد وضعية المغرب بشأن حصيلة منجزاته بخصوص الأوراش التي تحدتنا عنها سابقا، وبدأت تطالبه باحترام التزاماته التي قطعها على نفسه...بل هناك أصوتت بدأت تطالب الأوروبيين بمراجعة امتياز الوضع المتقدم. في ظل هذه المعطيات، المغرب لا مناص له من مباشرة أوراش الإصلاح الكبرى،من حكامة أمنية، وجهوية موسعة قادرة على خلق شروط تنمية حقيقية، واصلاح للقضاء يكون القرار كل القرار فيه ببساطة للقضاء لوحدهبعيدا عن أي سلطة تانية،ومن قانون جديد للحريات العامة يحدد بشكل صريح الحقوق والواجبات بما ينسجم مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. إن الحديث عن تأهيل الدولة لا يستقيم ما لم يتم تمتيع المؤسسات الدستورية للدولة من كامل الحرية والاستقلالية في ممارسة مهامها. البرلمانله ما يكفي من الآليات الرقابية لممارسة دوره في مجال حماية المال العام من النهب والتبديد، أهمها لجان التقصي التي ينبغي لنتائج تحرياتها أن تجد طريقها إلى العدالة، وليس تصفيفها في الرفوف واستعمالها كلما اقتضت ضرورة الحسابات ذلك. الأحزاب السياسية مطالبة بامتلاك الشجاعة السياسية لتطهير نفسها من كل الشوائبوالاعتراف بمسؤولياتها عندما تكون ثابتة، وليس الكيل بمكيالين ووضع العصامات على الأعين عندما يكون الناهب للمال العام واحد منها. القضاء هو مرآة العدالة في المجتمع، فكلما كان القضاء حرا ومستقلا ونزيها، وليس خاضعا ومنفذا للتعليماتالهاتفية كماسبق للوزير الأول أن صرح بذلك في أعقاب الانتخابات الأخيرة،ساد الحق والقانون واسترجعت الدولة سمعتها. المجلس الأعلى للحسابات، مؤسسة ينبغي الإشادة بالمجهودات المبدولة من طرفها في فضحناهبي المال العام، لكن ذلك لوحده لا يكفي، بل المطلوب رفع القيود عليها وتمكينها من كل الوسائل اللازمة لممارسة مهامها،لا سيما إعادة النظر فيبعض الفصول والمواد الواردة فيالقوانين المنظمة لها، وخاصة البنود 52و54 .فمن غير المنطقي أن تكون الحصانة بالنسبة للوزراء والبرلمانيين مانعا يحول دون مسائلتهم عندمايمارسون مهامهم بهذه الصفة...اللص لصا،برلمانيا كان أو وزيرا،فأي خير يرجىمن إبقاء اللص خارج المسائلة بذريعة أنه يمارس مهامه...شرف الدولة وحق القانون على الجميع يقتضي تجريدهم من مهامهم بدون تردد.