في صباح يوم من أيام الربيع , نهضت باكرا لكي أتمكن من تهيئة نفسي قبل أن تصل السيارة التي تأخذني إلى نزهة في الجبال والغابات التي تبعد عن مسكني بحوالي خمسة وعشرون كلمترا, معظم الجيران والأصدقاء من سكان مدينتي يحكون عن عطلة الأسبوع التي يقضونها في الغابات والجبال المجاورة, كان ذلك اليوم هو يوم الأحد ولم تكن ذكرى عيد القيامة قد فات أوانها, لذلك فقد قرر الإخوة أن نخرج للبراري لنتنزه ونحتفل بذكرى قيامة المسيح من القبر! في طريقنا كنا نتحدث عن أمور كثيرة , فالإخوة المؤمنون شبانا أقوياء يفيضون حيوية ونشاطا محبين للحياة والمعرفة لطفاء.. وقد زادتنا هذه النزهة نشاطا, عبد الله ممرض, إدريس صيدلي , وأحمد صحفي, والأخ الأجنبي كان مهندس من نيوزيلاندا, بينما كنا على موعد مع أخ آخر من مدينة مجاورة, وقد كلمني عبد الله من الخلف قائلا: أنا اخترت أن أحضر السمك لأنه مناسب تماما للنزهة بينما كان إدريس يريد أن يشتري اللحم ويعد لنا طاجينا, وفيما هم يتحدثون ويتجادلون تذكروا أنهم لم يحضروا معهم الفحم! في طريقنا كنا نتحدث ونتبادل الأخبار عن بعضنا البعض فقد كنا سابقا نجتمع لنصلي ونشكر الله مرتين كل شهر, وفي المناسبات الهامة مثل عيد الميلاد كنا أحيانا نجتمع في بيت في مدينة على شاطئ البحر, ففي فصل الشتاء يكون ثمن استئجار أحسن البيوت تجهيزا بأقل من نصف الاستئجار في الصيف. لكن بعد أن صارت الأجهزة الأمنية تراقبنا وتتبع خطواتنا وتطرد الآجانب وتعاقب المغاربة على معتقداتهم الشخصية.. قررنا تعديل برنامجنا.. كان الجو ربيعيا مشمسا عند انطلاقنا, لكننا كلما اقتربنا من وجهتنا كانت تبدوا لنا غيوم هائلة الحجم تهبط على الجبال وتغطيها شيئا فشيئا, كانت السيارة منطلقة بنا وسط الحقول المزروعة وأشجار اللوز تغطي المساحات كلها, عندما صارت سيارتنا تحوم حول الوديان وتتسلق المرتفع تلو الآخر صرنا نحس بالبرد واعتقدنا أنه لن يكون بإمكاننا التمتع بنزهتنا إذا ما نزل المطر.. عندما وصلنا أعلى مرتفع يمكن لسيارتنا أن تتسلقه في الطريق كانت تبدوا لنا الوديان والغابات الكثيفة مثلما كانت تبدوا لحواء وآدم عندما كانا في محضر الله في الفردوس الأعلى! هكذا اعتقدت, ولا شك أن النبي داود أحس مثلنا عندما غنى ورنّم لله قائلا: 1الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي. يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي. تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا. إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ. فقد كان داود راعي غنم اختبر منذ نعومة اظافره الإحساس بقوة الطبيعة, فنطقت شفتاه تعظمان الله على جميل إبداعه, ولأن داود كان راعيا يجري خلف الغنم فقد جعل منه هذا العمل فنانا شاعرا يعزف العود ويتكلم كلاما جميلا, حتى أنه صار عازفا في قصر الملك لكي يعالجه من أمراضه العصبية.. كما حولته التحديات التي صادفها مع الوحوش المفترسة الى مقاتل شرس لا يهزم, تذكرت هذا كله وأنا أمتع عيناي بجمال الربيع في تلك المنطقة التي تتواجد في وسطها قرية صغيرة وبعض المنازل البسيطة, ولما وصلنا حاول الإخوة البحث عن الفحم لكي نتمكن من شيّ السمك جيدا, ولكنهم لسوء الحظ لم يجدوا شيئا في الحوانيت القليلة هناك, ولقد أوقفنا السيارة تحت أشجار كبيرة تغطي المكان كله وحفيفها يوقض ذكريات جميلة عشتها في طفولتي, وقد بقينا ننتظر مجيئ أخ لنا في الإيمان وقد وصل بدون تأخر فعدنا لمقاعدنا داخل السيارة وقررنا التوجه نحو جهة أخرى لم يسبق لنا زيارتها, فما أجمل أن نكتشف عظمة الله في الطبيعة من زوايا كثيرة, فالله فنان عظيم ويريدنا نحن المؤمنين به أن نكتشف ابداعاته الكثيرة وما أكثرها وأعظمها في الطبيعة الجميلة, في كتاب قرأته عن راع كنيسة في الأرجنتين كان عدد مهم من أعضاء كنيسته من الشبان الذين لاحظ أنهم كثيرا ما يشكرون الله في صلواتهم بتكرار نفس الكلمات تقريبا كل فصول السنة وكل الأيام في جميع الأوقات, وذات مرة قرر أن يأخذهم معه في رحلة خاصة لعلهم ينتبهون لعظمة الله وسط الغابات والجبال المكللة بالثلوج وقد تصور أن زقزقة العصافير وتنوع الحشرات والنباتات.. واختلاف ذلك اليوم بكل ما فيه من نوعية الطعام ونظام الحياة.. سيجعلهم يستخدمون عبارات جديدة تدله على تغيير ما حدث في رؤيتهم لعظائم وأمجاد الله.. لكنهم عندما جلسوا للصلاة كانوا يكررون نفس الشكر ونفس الكلمات وكأن شيئا لم يحدث! لذلك فقد كان واثقا من أن صلاته أمامهم ينبغي أن تكون درسا يلفت انتباههم, فانحنى يصلي قائلا على مسامعهم: أشكرك يا إلهي القدير على هذا اليوم الجميل الذي قضيناه معا نحاول أن نكتشف مظاهر قدرتك وعظمتك, كل هذه الأشجار العالية والزهور المختلفة الأشكال والألوان, وهذه الطيور التي تزقزق فرحة سعيدة وكل هذه الجبال الشامخة التي تلامس السماء وهذه البحيرات التي تمتلئ بكل أشكال المخلوقات المائية.. إنما تشهد بأنك إلهنا الفنان المبدع العظيم خالق السموات والأرض وما عليها, إننا نشكرك ونمجد إسمك لهذا السبب, لكونك تصنع العظائم العجيبة, من خلال هذه المخلوقات التي خلقتها وجمّلتها ندرك بأنك قدير ولا حدود لقدرتك, حكمتك تعلمنا وترشدنا .. باسم يسوع المسيح نرفع صلواتنا ونكللها. آمين عندما طلب تلاميذ المسيح أن يعلمهم الصلاة قال لهم: "متى صليتم فقولوا: أيها الآب ليتقدس اسمك , ليأت ملكوتك, أعطنا خبزنا اليوميّ, واغفر لنا خطايانا, لأننا نغفر لكل من يذنب إلينا. ولا تدخلنا في التجربة." فمن خلال هذه الصلاة نتعلم أن نطلب من الله بحسب حاجتنا, فلا يمكننا أن نمجّد اسم الله إن كنا منصرفين لجمع المال وتكديسه أو نسعى للحصول على مكاسب غير متناسبة مع قدراتنا ومؤهلاتنا, وينبغي أن نتعلم كيف نغفر للناس الذين لا يقدروننا ويعتدون على حقوقنا, لقد قال سليمان الملك: لا تعطني فقرا ولا غنى, لئلا أجوع وأشتم اسم الرب باطلا, أو أشبع وأكفر وأقول من هو الرب! وهذه تجربة عصيبة يقع فيها كثيرون, فهناك من يعتقد أن الغنى يخلصه من كل آلام الجوع والفقر, غير أن للغنى أوجاع يحدثها كما للفقر آلام ومآسي كثيرة, فإذا كانت البلدان الغنية قد بلغت أعلى مراتب التقدم التي يمكن تصورها ووفرت لأبنائها وبناتها مستوى معيشي رفيع, فإن لهذا المستوى تأثيره, فعلى سبيل المثال : أن أنواعا من أمراض السرطان تفتك بكثيرين ممن يتناولون أطعمة متنوعة كل يوم غنية بالدهون, مثلما يعاني الجوعى كذلك ويموتون عطشا أو يدوس بعضهم بعضا في سبيلهم إلى كمشة قمح أو ذرة.. ولقد صوّر لنا يعقوب القديس مشكلات الإنسان الذي يريد أن يحصل على أكثر من حاجته حينما قال: " من أين القتال والخصام بينكم ؟ أما هي من أهوائكم المتصارعة في أجسادكم؟ تشتهون ولا تمتلكون فتقتلون. تحسدون وتعجزون أن تنالوا فتخاصمون وتقاتلون. أنتم محرومون لأنكم لا تطلبون, وإن طلبتم فلا تنالون لأنكم تسيئون الطلب لرغبتكم في الإنفاق على أهوائكم." عندما وصلنا إلى أعماق الغابة أوقفنا السيارة في مكان فسيح مكسو بنباتات معظم أزهارها صفراء اللون, وقد أنزلنا الكراسي وبعض المأكولات , فتناولنا الشاي بعدما شكرنا الله على تهيئة هذه المناسبة, وقرأنا من الكتاب ما تيسر وتبادلنا أطراف الحديث , ثم قمنا لنتجول في الغابة ونحن نتحاور أحيانا ونرنم أحيانا أخرى, ما أجمل أن تغني لله أغنية تعبر من خلالها عن إعجابك بما خلقه في الكون, وقد كنا نتمشى نجمع الغصون الجافة التي تكفينا, ولما عدنا حيث الكراسي والسيارة ,صرنا نلعب الكرة الحديدية, ثم جلسنا نشكر الله ونرنم بالقيثارة, " يا سيدي لما أرى نجومك وكل ما يدور في الافلاك _ أسمع صوت الرعد في غيومك وكلها قد صنعت يداك _ نفسي تغني يا مخلصي ما أعظمك ما أعظمك , إنها أحب ترنيمة لقلبي.. هناك من يعتقد أن المسيحيين لا يقيمون الصلوات إلا مرة كل أسبوع, بينما الحقيقة أن المؤمن المسيحي يصلي في أي وقت شاء, فالصلاة ليست فريضة لأن المسيحية ليست فيها فرائض تؤدى بطريقة مكانيكية, فالصلاة عند المؤمن المسيحي مسألة قرار ورغبة شخصية وهي ثمرة للمحبة التي يفيض بها قلبك تجاه خالقك, والله لا يحب الصلوات التي لا يقوم بها الناس إلا رياء.. إن الصلاة هي علاقة شخصية تعبر عن الإخلاص والثقة في كائن أسمى, الله مبدع كما أشرت سابقا, وعلى المؤمن أن يحاول ما أمكن مراعات ذلك, فالله يحبك وأنت ترسم لوحة جميلة بكلمات صادقة من قلبك, ينبغي أن يكون في قلبك محبة لكي تدرك معنى أن يكون الخالق محبة, عندما قدم المسيح إلى طائفة من الناس المتديينين الذين كانوا يعتقدون أنهم أفضل وأكثر تقوى من غيرهم لكونهم كانوا يطبقون كل طقوس الشريعة ويحتقرون غيرهم, قال لهم: 10«إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. 11أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. 12أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. 13وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ. 14أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ». إن الله يريدنا أن نتواضع ونقبل الآخرين مهما اختلفوا عنّا ونحبهم ونصلي من أجلهم حتي تستقيم حياتهم وحياة عائلاتهم, هذه هي ألف باء المسيحية, إنك لن تستطيع أن تؤثر تأثيرا إيجابيا في محيطك بتصورات أو معتقدات تجذبك للخلف حيث تنعزل وتبغض الناس.. بل ينبغي أن تناضل من أجل السلام بكل أبعاده, ونحن في هذه الفترة العصيبة نواجه حملة شرسة من رجال الدين الإسلامي, ينبغي أن نكون حكماء ونتصرف كأناس يمثلون المسيحية الحقّة في بلدهم, فلسنا نستغل أحدا كما يدعون ولا نقلل من قدر أحد ولا نعتدي على القوانين ولسنا جهلاء لا نعرف ما نؤمن به كما يقولون, وعندما نكتب حقائق عن الإسلام تزعجهم وتشعرهم بالإهانة فنحن لا نقوم بذلك إلا لأننا نهان يوميا ويقللون من قدرنا , وما نكتبه ليس تهما بلا سند وإنما هي حقائق موجودة في القرآن والسنة وتشهد بها كتب الناريخ وكبار الفلاسفة المفكرون, ولا نهدف إهانتهم بقدم ما نهدف للدفاع عن معتقداتنا وأنفسنا وضرورة إعطاء الجواب على تساؤلاتهم واتهامتهم, وهم بذلك يحاولون تعطيل إيماننا ! ولكن ينبغي دائما أن نحترس كيلا نقع في مستنقع الحقد ونخالف أسس إيماننا, بل ينبغي أن لا تطفئ المآمرات _التي تحيكها ضدنا أجهزة الدولة وجماعة رجال الدين_ قوة إيماننا, فهم يخافون على مصالحهم أكثر من خوفهم على شيء آخر, ولو كانت لدينا مؤسسات ديموقراطية تحترم الإنسان لما كان إيماننا الشخصي يشكل مشكلة للدولة ومؤسساتها التي صارت منشغلة بأمور لا علاقة لها بوظيفتها الأساسية ألا وهي توفير الإطار الذي يكفل لكل مواطن الحق في العيش بكل حرية والعمل.. وكل ما يحتاجه لكي ينتج ويشارك في عملية التنمية , وإذا كانت مؤسسات هذه الدولة لا تعترف بنا فنحن لا نعترف بها, وهي فاقدة للشرعية , لأنه لا يمكن لمؤسسة أن تحصل على أي مصداقية إلا من مواطينيها على اختلاف أفكارهم ومعتقداتهم, فما دمنا لا نعتدي على أحد فنحن غير فاقدين للشرعية. [email protected] mailto:[email protected]