تاريخياً انتصرت استراتيجية صلاح الدين الأيوبي العسكرية والسياسية، ليبدأ العد العكسي لنهاية الإماراة الصليبية. بعد موقعة حطين الحاسمة 583للهجرة ( 1187 للميلاد) بقيت بعض الامارات الصليبية، لكنها راحت تضمحل وتتضاءل إلى أن انطفأت دون أعمال عسكرية تذكر. لم تنه أعمال صلاح الدين بشقيها العسكري والسياسي الوجود الصليبي فقط، وإنما قلبت موازين القوى بين الشيعة والسنة فيما يسمى الآن البلادُ العربية. كانت الشيعة والسنة تتناصف البلاد. لكن نصر صلاح الدين "السني" أتاح للسنة أن تبسط هيمنة مطلقة مثلما حصل في مصر.أما في بلاد الشام فتحققت السيطرة العامة وانحصرت الفرق الشيعية في الجبال. هناك دلائل تشير إلى أن الشيعة السياسية تعلمت الدرس وحفظته. فاسم فلسطين لا يبارح إعلام حزب الله ولا ألسنة أفراده. لا بل إن تحليل خطابات وتصريحات زعيم الحزب تظهر التمركز الواعي والمتعمد حول مفردات: فلسطينوالقدس والمقاومة. وحتى عندما اجتاحت قوات حزب الله بيروتالغربية "السنية" فإن الحامل الدعائي والتعبوي كان هو القدسوفلسطين وطبعاً المقاومة، أي حزب الله. يستطيع المحللُ المدقق أن يضبط خطابَ حزب الله متلبّساً في قلة الإشارات إلى الشعب الفلسطيني، مقابل كلمتي القدسوفلسطين. و يمكن تفسيرهذه الظاهرة بأن الوعي أو اللاوعي الجمعي لدى منتجي خطاب حزب الله لا يحترم شعباً ولا تنظيمات لا ترى ما يرى دينياً وسياسياً، إضافة إلى رؤيته الجافية تجاه المصطلح الحديث. المهم والمركزي في هذا الخطاب هو الأرض والحجارة والمسجد الابراهيمي وقبة الصخرة، باعتبارها رموزاً دينية تدل على الدين وليس على الشعب. إنه خطاب لا يريد تذكر أن بشراً يعيشون هناك، إلا عندما يخدم تَذكّر البشر أيقونة الخطاب. القدس، فلسطين. ومنذ الحرب الأخيرة أضيفت غزة. تشتغل الشيعة السياسية على الرفض الشعبي لإسرائيل، فإيران وأذرعها العربية (بما فيهم حماس) مهووسون الآن بترسيخ خطاب يتيح لهم أن يظهروا في أعين الناس أنهم الفرقة الناجية سياسياً، ودينياُ. سياسياً بانزياح الخطاب والاستراتيجيات العملية إلى براغماتية (هي بالتحديد نقيض التدين والمبادىء!) تتذاكى في استخدام كل شيء وأي شيء للوصول إلى الهدف. فمثلاً؛ يجري حديث في أوساط المعارضة الإيرانية أن جهات في الحرس الثوري تستخدم تجارة المخدرات لتمويل نشاطاتها، وهي تستهدف دول الخليج العربي بالتهريب والاتجار بالمخدرات . الأمر الذي ثبتت مصداقيته عندما القت الأجهزة الأمنية البحرانية قبل وقت قصير على عصابة تهريب للمخدرات إلى البحرين والسعودية. دينياً يرى هذ التحالف في نفسه أنه الإسلام الحق، وأنه يعمل على سيطرة الاسلام "المحمدي!" حسب التسمية ذات النية الواضحة في استغلال اسم النبي. وهم بهذا يضعون إسلاماً في منافسة إسلام آخر. و يحدث كثيراً أن يسموا هذا الاسلام الآخر وبصراحة الإسلام الأموي. يكفي للمرء أن يتابع قنوات فضائية كالكوثر والعالم والمنار، كي يرى ما هو الاسلام الآخر في خطاب الحرس الثوري وأذرعه العربية. بل إن حسن نصرالله ذاته خاض في مستنقع شتمٍ مقذع لإسلام أموي يتصوره غاصباً ولا أخلاقياً وظالماً وخسيساً، حتى أنه لم ينتبه في أحد خطبه أنه بتكراره اسم الشام وربطه بكل منظومة الشر التي يراها في الأمويين، قد أهان الشوام والسوريين عموماً. أما حلبة المنافسة وكما يريدها بوعي تام الإيرانيون وأذرعهم العربية فهي فلسطينوالقدس. منافسة في الخطاب أولا وثانياً وثالثاً، وربما تأتي في المرتبة الرابعة في الأهمية إثارة اشتباكات محدودة مع اسرائيل تقوم بها الأذرع لا الإيرانيون طبعاً. هذه الاشتباكات ضوررية لتجديد الخطاب ولشد أعصاب الأتباع حيث ينهمر الكلام سيولاً، وحيث يُلحس عقلُ الناس عبر التكرار الكلامي، فلسطينوالقدس والمقاومة. والحقيقة أن في الأمر تعمية وضحكاً تاريخياً على الذقون. فالتنافس المُتخيل أو الصراع بين الشيعية السياسية وما يفترض أن يكون سنة سياسية يعتوره تمويهٌ وبروباغندة خادعة. إذْ إن تنظيم الإخوان المسلمين، التنظيم الأم لجلّ المجموعات الإسلامية السياسية السنية؛ هو من مؤيدي إيران وحزب الله، ليس أدل على ذلك من موقف إخوان مصر والأردن وبقايا الجبهة الاسلامية في الجزائر وأخيراً إخوان سورية. وكذلك تمالئ أكثريةُ القوميين العرب، وبصورة غرائبية، إيران وأذرعَها العربية. كما أن أحوال القاعدة تتكشف عن تعاون مع إيران، إن اختياراً أو اضطراراً. أما "الوهابية" العدو الألد للشيعة السياسية فكرياً فإنها في حالة تراجع إلى مكمنها الأصل، أي إلى المذاهب الأربع. أصلاً يجادل "الوهابيون" أنهم لا ينتمون إلى مذهب يسمى بالوهابية. ولا يسمح الإصلاح الديني والسياسي الجاري في السعودية لأن تنمو حركات دينية غير منضبطة تحت جناح الاصلاح. أذن من هو المستهدف؟ قبل أقل من ثلاثة عقود وعندما كانت الحرب العراقية الإيرانية في أشدها وبعد خطاب من الخميني يبرر استمرار الحرب بفلسطين ويربط بين تصدير الثورة وتحرير فلسطين. ولأن صدام حسين معتق كما هو الخميني وخبير في التربع على عرش الخطاب المُستثمر لاسم فلسطين وقدسها، فقد تحدى إيران في أن ترسل قوات لتحرير فلسطين. وعلى الضفة الإيرانية شرع الاعلام الايراني وأذرع إيران في المنطقة العربية (كانت ما تزال غضة) بشن حملة لا تفتر ولا تنتهي من أن العائق عن تحرير القدس هو صدام حسين، وأن أيران أعدت ملايين المقاتلين لتحرير القدس. بلغت الدراما ذروتها عندما أصدر مجلس قيادة الثورة العراقية بياناً يعلن فيه تفاصيل خطّة للسماح بدخول فيالق من الجيش والحرس الثوري الإيرانيين إلى العراق ومرورها عبره نحو فلسطين، وتحت حماية وحراسة يتفق عليها ثنائياً وتُضمنها دولٌ إسلامية. لا صدام كان جاداً في خطته لأنه يعرف أن كلام الإيرانيين هو مجرد كلام. ولا الخميني وأتباعه كانوا جادين لأنهم يعرفون أنهم يزايدون لكسب الشعوب الإسلامية التي مازالت مبهورة بالثورة. كلاهما يزاحم من أجل كسب تأييد المسلم العادي وبالأخص المسلم العربي العادي، فهو وقود الحرب، وهو الذي تنشق حنجرته بالهتافات، أكانت الهتافات من نوع" بالروح بالدم" الصدامية، أم "اللهم سلّي علااا" الايرانية. لم يتغير شيء منذ ذاك الوقت، سوى أن نصراً مؤزراً أحرزه الأمريكان ثم أهدوه لإيران، وسوى أن صدام شُنق ومُثّل به، و سوى أن العراق الآن محطّ نفوذٍ إيراني، و سوى أن المسلم العربي العادي ملحوس العقل بخطاب "فلسطين، القدس، والمقاومة". إيران كسبت معركة وبالمجان. كسبت بالخلافات العربية وبالدماء العربية وبالكلام العربي. وإيران لن تكتفي وستسعى إلى الهيمنة على الشرق الأوسط، أو على الأقل مقاسمة إسرائيل والنفوذ الغربي. والمادة المشغول عليها هنا هي العرب. .