البيان، البرهان، العرفان كلمات مفاتيح للغوص في فكر محمد عابد الجابري الذي أنتقل إلى عفو الله تاركا وراءه علما نافعا على ما نحسب ودنيا أبان عن زهد غير يسير فيها كما سنرى في باب إبراز حكمته.. وأود أن أقف عند دروس سيرة الرجل التي يمكن أن تقودنا إلى أنه وهو الذي شغف بالفلسفة قد بلغ درجة الحكمة في مسار حياته، أو ليس الفيلسوف محب الحكمة وصاحبها... وسأحاول أن أتناول سيرته كما هي معروفة ودون تعمق من خلال الكلمات الثلاث المؤسسة لتحليله لبنى واشتغال الفكر العربي، لكن بعيدا عن استعماله لها: البيان والبرهان والعرفان... في البيان: بيان رؤية الجابري لم يكن موضع جدال، فقد كان الجابري مفكر الفكرة الواضحة البينة التي يتم تقديمها للجمهور بوضوح ومنهجية ومضمون ممتلئ، بعيدا عن التواء كتابات العديد من المفكرين والمحللين المعاصرين، ولعله من الجامعيين القلائل الذي خلفوا أفكارا يتداولها القراء والطلبة، بدل الغموض والالتفاف حول المفاهيم الفضفاضة والألفاظ المنحوتة الخاوية كما ذهب إلى ذلك أصحاب نقص الأفكار الملتجئون إلى لي نصوص تلتف حول المفاهيم الغامضة غير الثابتة.. كان الرجل واضح المشروع والفكرة، وبين العبارة والجملة، مما سمح لطلبته وقرائه الإفادة منه ولمعارضيه مناقشته على أساس أطروحات واضحة المعالم يتحمل مسؤوليتها بشجاعة.. والبيان ليس غريبا عن محرر البيان الإيديولوجي لحزب القوات الشعبية والنخبة المثقفة في مغرب ما بعد الاستقلال في البرهان: نجد البرهان على أن الجابري ينتمي إلى طبقة المفكرين الذين يذكرهم التاريخ بارز في سيرته؛ فهو الذي اعتذر عن قبول المناصب وعديد الجوائز كلما علقت بها شبهة(أعتذر عن جوائز مرتبطة بالسلطة في المغرب وليبيا والعراق) واعتذر عن الترشح لمنصب سياسي، وهو الملتصق بحزب القوات الشعبية، وترفع بزهد العارفين عن الطموح إلى المسؤولية ضمن رؤية مسؤولة تقدر جسامة المسؤولية، ورؤية حكيمة تعرف أن المنصب محرقة المفكر كما حصل مع عديد من الرموز الثقافية التي فقدت قيمتها المعنوية بمجرد ارتباط اسمها بجائزة هنا أو تطلعها إلى منصب سياسي هناك... تسرع بعض الكتاب والمفكرين إلى البحث عن الجوائز والمناصب يفقدهم تلك الرمزية والقيمة المعنوية للمفكر عبر التاريخ المترفع عن دنايا الأمور فمعروف أن أغلب جوائز الأدب والثقافة تحوم حولها شبهة سياسية أو غيرها... في العرفان: أما العرفان ففيه شقان، شق العارف الذي كانه الجابري المشرف على مجلة فكر ونقد وكان –رفقة زملائه في التحرير- يمكنه من اختيار المواد دون اعتبار للإسم، إذ كان يعتبر النص توقيعا لصاحبه بما مكنه من النشر لشباب ذوي أبحاثا رصين أحيانا دون أسماء معروفة لم تكن تقدم ما يرقى لمنبر محكم؛ أما الشق الثاني فشخصي، وفيه للرجل علي عرفان واجب: فالمفكر الكبير الذي لا تربطني به أي علاقة لا من بعيد ولا من قريب ولم أحظ بشرف لقاءه ولا التقرب منه، أكرمني أيما إكرام، أود أن أشكر الجابري وهو في قبره يقطف ثمار إخلاصه في العمل وتفانيه في حب العلم النافع وخدمته(نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا)، أود أن أعبر له وهو في عالم الملكوت عن عرفاني الكبير لأنه أشرك اسمي المتواضع مع اسمه اللامع كتابه الجماعي الأخير الصادر عن صدر عن الشبكة العربية والأبحاث والنشر ضمن سلسلة (كتب فكر ونقد) تحت عنوان "العولمة وأزمة الليبرالية الجديدة"، وذلك عندما تفضل باختتام مادة الكتاب بملف ترجمته عن "الأشكال الجديدة للنظام الرأسمالي"... فأن أجد اسمي ضمن كتاب جماعي يضم أسماء عملاقة وعلى رأسها اسم الجابري وتحت إشرافه حلم لم يكن ليخطر على بالي وأنا المبتدئ في عالم الكتابة والقلم... أذكر هذا عرفانا بجميل أكبر مني.. وعرفانا أيضا بنزاهة رجل لم تأخذه العزة ولا الغرور بأن يهمل أسماء غير معروفة... تلك شيم العلماء والحكماء... لعلنا نقف هنا تكريما للراحل لا لنقف عند فكره وعطائه الغزير وعلمه الكبير الذي لا نملك منه ما يسمح لنا بتقديمه ولا نجدنا أهلا لمناقشته أو مراجعته... لكن عمقه تثبته مقالات وأبحاث المتخصصين وقيمته تبرزها أيضا قيمة المحاورين له والرادين لطروحاته... إننا نريد عند الدرس الذي خلفه من خلال سيرته والتي جعلت في منأى عن كثير الشبوهات وعن إغراءات لا يفلت من سحرها إلا الحكيم ذي النظر البعيد... إن الحديث عن الجابري حديث عن منبر الجامعة الممتلئ، فالجابري نموذج ما يجب أن يكون عليه الأستاذ الجامعي الذي ينتج المعرفة ولا يكتفي باستهلاكها.. فقد عرف الجابري باعتباره باني للمفاهيم من خلال مزج بين مناهج ونظريات الغرب ونصوص وأفكار الشرق... في حين نقف اليوم عند جامعيين يملون على طلبتهم نصوصا منسوخة هنا وهناك تتضمن أولية للعلم الذي يشرفون عليه من خلال تعاريف عامة وجاهزة يكون على الطلاب حفظها وترتيلها على الأستاذ عند الامتحان إن الحديث عن الجابري حديث عن المفكر المنخرط في هموم أمته ووطنه، فالتزام الجابري السياسي غير خاف على أحد.. وانخراطه في التصورات السياسية والمجتمعية لا يخف على أحد... إن الحديث عن الجابري حديث عن التعامل الفيلسوف مع السياسة، فقد كان من الحكمة أن ابتعد عن المسؤولية والطموح السياسي .. لعل بصيرته أرشدته إلى جسامة الفرق بين النظرية والتطبيق، ووعيه وجهه إلى أن السياسة من حيث اعتبارها طريقا للترقي المادي والاجتماعي محرقة للمفكر.. إنه درس الجابري للمثقفين والمفكرين. [email protected] mailto:[email protected]