يستعرض الصحافي محمد بن ددوش في كتابه "رحلة حياتي مع الميكروفون"، الصادر مؤخرا عن دار ابي رقراق للطباعة والنشر، السجل الحافل للوقائع التي عاشها وواكبها خلال مسار امتد لأزيد من خمسين عاما من ممارسة عمله في الإذاعة منذ بداية الاستقلال معززا بانطباعاته خلال تغطيته الصحافية كشاهد يؤرخ لأحداث كبرى عاشتها البلاد. وبدأت رحلة بن ددوش الطويلة سنة 1952 بترجمة نشرة الأخبار من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية وإذاعتها، ويروي الكاتب تغطيته لعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى وانطلاقة بناء الدولة المستقلة، ودور الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة في بداية الاستقلال وأمام توالي الحكومات. وشكلت الإذاعة أول نقطة توتر بين الحكومة المغربية وفرنسا في بداية عهد الاستقلال بعد إذاعة برنامج كان يقدمه بن ددوش أسبوعيا وتضمن انتقادات شديدة اللهجة لسياسة فرنسا آنذاك في مستعمرتها الجزائر، وخلف حملة صحفية فرنسية ضد المغرب. ويرصد المؤلف كيف واكبت الإذاعة رحلة الملك الراحل محمد الخامس إلى إسبانيا خلال المفاوضات التي أفضت إلى تكريس وحدة واستقلال المغرب ومرحلة الازدهار التي عاشتها مع الملك الراحل بعد رجوعه من المنفى. كما يخصص بنددوش صفحات للزعيم الكونغولي باتريس لومومبا الذي رافقه خلال رحلته الإفريقية ووجوده في المغرب واللقاء الذي جمعه بالملك الراحل محمد الخامس والذي "ترك بصمات قوية وإيجابية على سياسة المغرب الخارجية إزاء القارة الإفريقية للدفاع عن حريتها وكرامتها ووحدة ترابها". واعتبر الكاتب العربي المساري، في تقديم الكتاب، هذا العمل "سجلا حافلا لممارسة العمل الإذاعي في المغرب على يد جيل الاستقلال الذي خلف جيلا له لغة عتيقة ومفاهيم متوارثة منذ إنشاء الإذاعة في 1928". وأضاف أن "بن ددوش، فضلا عن كونه مؤرخا للعمل الإذاعي في مغرب الاستقلال، يجده القارئ شاهدا على التاريخ، حينما يقدم إضاءات على الأحداث التي عاشها أو واكبها، ومنها وجوده كرهينة في دار الإذاعة يوم محاولة انقلاب الصخيرات". يتحدث المؤلف في صفحات ومواقف متعددة عن شغف الملك الراحل الحسن الثاني بالإذاعة التي كان يعتبرها "أخطر من الصورايخ"، وكذا علاقات الراحل برجال الإعلام انطلاقا من الاهتمام الإعلامي الأجنبي الواسع الذي كان يحظى به، خاصة لدى وسائل الإعلام الفرنسية، والذي يدل على البصمات التي كانت للراحل في المجال السياسي. وخلف الملك الراحل رصيدا هائلا وشاملا من الخطب والندوات والتصريحات والأحاديث الصحفية جمعتها وزارة الإعلام في عدة مجلدات وحرصت الإذاعة، حسب بن ددوش، على المحافظة عليها ك"ذخيرة تاريخية"، خاصة في ما يتعلق بالحدث التاريخي للمسيرة الخضراء. وانطلاقا من مواكبته المهنية لمختلف مراحلها، تناول الكاتب الجوانب الدبلوماسية للمسيرة كقوة ضغط خلال المفاوضات المغربية الإسبانية التي أدت إلى اتفاقية مدريد سنة 1975، وكذا أهمية دور إذاعة طرفاية المحلية التي عملت، إلى جانب الإذاعة المركزية، على إيصال صوت المسيرة إلى المستمعين داخل المغرب وخارجه. وكان بن ددوش الصوت الإذاعي الأول الذي أعلن مباشرة على الإذاعة صباح يوم 6 نونبر انطلاق المسيرة واجتيازها للحدود الوهمية التي فرضها الاستعمار على المنطقة. واعتبر بنددوش من جهة أخرى في كتابه أن تأسيس إذاعة البحر الأبيض المتوسط شكل بداية مرحلة المزاحمة الإذاعية، مشيرا الى ان هذه الاذاعة استفادت في بداية عهدها من أجهزة البث الخاصة بالإذاعة الوطنية على حساب هذه الأخيرة، التي سعى العاملون فيها بالمقابل إلى تطوير منتوجهم الإخباري قدر المستطاع والخروج عن النمط التقليدي رغم العراقيل المرتبطة أساسا بتبعية الإعلام لوزارة الداخلية في ذلك العهد. وتطرق المؤلف لهذه المرحلة بالذات واعتبر أن تبعية الاذاعة والتلفزة المباشرة لسيطرة وزارة الداخلية منذ 1986 "عملية قرصنة لا أقل ولا أكثر وعملية احتجاز للإبداع الفكري والفني وتكميم الأفواه ونشر الرعب والخوف في صفوف العاملين بهذه المؤسسة". كما يورد بن ددوش القصة الكاملة لسيطرة انقلابيي الصخيرات على الإذاعة سنة 1971، حين وجد نفسه رفقة "الصحافيين والمذيعين والتقنيين والفنانين تحت رحمة السلاح دون سابق إنذار" لعشر ساعات عصيبة، وتحولت الإذاعة إلى مستودع للرهائن، من أبرزهم الفنان المصري الراحل عبد الحليم حافظ الذي كان متواجدا في الإذاعة آنذاك. ويفرد بن ددوش فصلا خاصا للموسيقيين الذين عايشهم لعقود في دار الإذاعة والتلفزة وكانوا يشكلون "نماذج فريدة ومتميزة بالنسبة لباقي العاملين في المؤسسة كان يوجب التعامل معهم بليونة ومجاملة". وشكل ظهور الأجواق الثلاثة للإذاعة مجتمعة للمرة الأولى خلال تلك الفترة حدثا فنيا كبيرا بالمغرب، وأثمرت هذه الفترة ثروة موسيقية وطنية محكوم عليها الآن بالصمت المطلق في أدراج الإذاعة والتلفزة، حسب بن ددوش الذي أبرز أن الإذاعة شكلت دائما الرافد الأساسي والأول لنشر الموسيقى الأندلسية في البلاد. ويقول ان طريق الظهور والشهرة كانت تمر آنذاك حتما عبر الإذاعة الوطنية التي لجأت إليها الأجواق والمجموعات الفنية لتسجيل ونشر أعمالها في ظل غياب مؤسسات الإنتاج. ولايخفي بن ددوش أسفه لحالة الركود التي يعيشها قطاع الموسيقى في الإذاعة والتلفزة نتيجة غياب رواد العهد الزاهر للأغنية المغربية، وكذا لتوقف إنتاج الأغاني الوطنية التي "ساهمت في الحفاظ على جذوة الروح الوطنية". ويستعرض الكاتب كذلك قصة الإذاعة مع الدروس الحسنية الرمضانية في مراحلها الأولى ودورها في توسيع نطاق الاهتمام بهذه المجالس العلمية، وانطلاقة المسيرة القرآنية إذاعيا وتلفزيا سنة 1982 خلال شهر رمضان الأبرك. كما تطرق الكاتب في فصول عدة لزياراته المهنية لأزيد من 40 دولة في العالم لتغطية أحداث وطنية ودولية ويروي كيف وجد نفسه في سياق مساعي الملك الراحل الحسن الثاني لإصلاح ذات البين بين إيران والمملكة العربية السعودية خلال سنة 1986، وظروف وملابسات إقامة شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي في المغرب بعد خروجه من بلاده. كما يتطرق لأحداث الانقلاب العسكري ضد الرئيس الجزائري أحمد بن بلة ووفاة الرئيس هواري بومدين وكيف اضطرت الإذاعة طيلة عقود من الزمن لتجاهل أخبار الدولة الجارة كيف ما كان نوعها تجنبا لأي تأويل من شأنه إثارة البلبلة والزيادة في حدة التوتر بين المغرب والجزائر. ولد محمد بن ددوش سنة 1929 بتلمسان ودرس بجامعة القرويين بفاس والتحق بالإذاعة المغربية سنة 1952 حيث ارتقى في عدة مناصب وأصبح مديرا لها ما بين 1974 و1986. كما شغل بن ددوش منصب مستشار إعلامي في ديوان الأمين العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وشارك بكتابات متنوعة في مختلف الصحف المغربية وحاز على عدة أوسمة وطنية ودولية.