أكد الباحث كمال عبد اللطيف أن المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري "تمكن بفضل حنكته وتجربته في الحياة ونوعية حضوره في المشهد السياسي المغربي والعربي أن "يبني صرحا فكريا لا نجازف عندما نعتبره واحدا من بين مجموعة قليلة من الصروح النظرية الفاعلة في قلب الحركة الفكرية العربية المعاصرة". وأشار كمال عبد اللطيف أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة محمد الخامس بالرباط، في محاضرة ألقاها مساء أمس بأبوظبي إحياء للذكرى الأربعينة لرحيل الاستاذ الجابري، إلى أن إنتاج الفقيد الفلسفي الغزير وكفاءته في صوغ سِجل من الأسئلة الموصولة بمجالات الصراع السياسي منحته "اعتبارا رمزيا قل نظيره، في المجال الثقافي العربي، طيلة العقود الثلاثة المنصرمة من القرن الماضي". وأكد كمال خلال هذه المحاضرة التي نظمها "مركز الشيخ سلطان بن زايد ال نهيان الثقافي والإعلامي"، أن الأعمال الفكرية للأستاذ محمد عابد الجابري، ساهمت في بناء مجموعة من المواقف والاقتناعات الفكرية والتاريخية، في موضوع قراءة التراث العربي الإسلامي، وفي التفكير في مشروع النهضة العربية، مسجلا أنها تميزت كلها بقدرتها الكبيرة على تحقيق نوع من الانخراط المنفعل والفاعل، في فضاء الفكر العربي المعاصر. وأوضح "إذا كنا نسلم بأن أسئلة الفكر العربي المعاصر اليوم، تعكس بمناهجها الخاصة في المقاربة والفهم، نوعيات تمثلها لمختلف أشكال الصراع الحاصلة في الواقع، فإن الأعمال الفكرية للجابري، تعد في كثير من أوجهها بمثابة الروح المعبرة عن أنماط من التوتر والتحول الحاصلة في الواقع العربي". وما يعزز هذا الحكم السابق، يضيف كمال عبد اللطيف، هو نوعية انخراط محمد عابد الجابري في مجابهة إشكالات العصر الراهن، حيث مَكَّنه انخراطه في البحث، المسنود باختيارات إيديولوجية وفلسفية معلنة وواضحة، من تحقيق نوع من الحضور الثقافي والسياسي المتميزين. وأشار إلى أن التزام المفكر المغربي بالعمل السياسي المباشر، وكذا ممارسته الفكرية الموصولة أساسا بقضايا الصراع الإيديولوجي والسياسي في المغرب وفي الوطن العربي، ساهمت في " بنائه لجملة من الاقتناعات الهادفة إلى تطوير المجتمع العربي". كما ذكر بأن المتابع والمهتم بالمسار الفكري لمحمد عابد الجابري، يقف على جملة من العناصر الصانعة لخلفيات منتوجه النظري الفلسفي، سواء في المجال الفلسفي أو في مجال قراءاته للتراث، او إنتاجه الذي بنى فيه مواقفه الوطنية والقومية وتصوراته لمشروع النهضة العربية...( وأبرز كمال عبد اللطيف إلى أن الجبهات التي صنعت المسار الفكري لمحمد عابد الجابري، تتمثل أولا في "جبهة تدريس الفلسفة في المدرسة وفي الجامعة، ثم جبهة التراث، وهي جبهة خاضها وهو يبحث عن صيغة جديدة للمواءمة بين التراث وبين مقتضيات الحداثة والتحديث، في زمن جديد اتسم بثورات عديدة في المعرفة والسياسة والتكنولوجية". اما الجبهة الثالثة وهي جبهة العمل السياسي، والتي انخرط فيها يافعا، فقد ظل حضوره المتفاعل مع مقتضياتها قائما، حتى عند مغادرته للعمل السياسي المؤسسي، بحكم أن مشروعه الفكري لم يكن مفصولا عن عمله السياسي. وسجل عبد اللطيف أن "قراءة التراث عند الجابري أشبه ما تكون بعملية حفر تبحث لمقومات الحداثة عن تاريخ آخر، وسياق آخر مخالف لسياقها، يمتلك في كل العناصر التي يمكن أن تحوله إلى جذر آخر لها". لكن هذه القوة يضيف المفكر المغربي، "تزداد وتتعاظم، عندما نضع مكاسبها وثمارها، بجوار الخطاب التراثي، الذي يتمظهر اليوم في لغات وحساسيات جديدة". ورأى الباحث أن المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري يتسم أولا، باقتناعه الراسخ بالوظيفة التاريخية للفكر والمفكر، مما سمح له برسم حدود معينة لمساره الثقافي والسياسي، مبرزا أن الجابري ظل دوما يعتبر أن "تعقل وإضاءة أسئلة المجتمع والتاريخ لا تكون إلا بهدف المساهمة في تغييره وتطويره". وأشار أن هذه الخاصية في فكر الجابري ، تعد محصلة لتكوينه الفلسفي المتشبع بتصور معين لنزعة فلسفية تمنح المثقف والسياسي امتياز صناعة وتوجيه الأحداث في التاريخ. كما يتسم مشروعه ثانيا، باهتمامه بإشكالات التحول السياسي الوطني في المغرب، وإشكالات مشروع النهوض القومي في أبعاده الثقافية والسياسية، حيث تقدم أعماله مداخل قوية في مجال النظر إلى هذه الإشكالات. ويضيف عبد اللطيف، "لقد ساعده في إنجاز ما أنجز من آثار نصية في هذا الباب، استثماره لتكوينه الفلسفي، ولمجموع العبر والخلاصات التي ترتبت عن التزامه بالعمل السياسي الوطني والقومي، وكذا مواكبته للمتغيرات المرتبطة بأشكال الصراع الدائر في العالم". يشار إلى كمال عبد اللطيف مفكر مغربي بارز له عدة مؤلفات في التاريخ والفكر العربي المعاصر، حيث يعد واحدا من بين الكتاب العرب الذين تناولوا في أعمالهم فكرالراحل محمد عابد الجابري.