أهدتني «مكتبة داهش» في نيويورك العام الماضي كتابين من مؤلفات السفير الليبي لدى الأممالمتحدة الدكتور عبد الرحمن شلقم، الأول «تجليات من الضمير إلى المصير»، والثاني «سوف أفرح». اتصلت بالدكتور شلقم وشكرته. قرأت الكتابين، وهما عبارة عن خواطر وجدانية جميلة، وشعرت بأسف لأنني لن أستطيع الكتابة عنهما. لماذا؟ لأنني لم أرد أن ألحق أي ضرر بالرجل؛ فاللجان على أنواعها لا تحب ما أكتب عن الأخ القائد، ولم تحب الاستمرار في ذلك أيضا. ولذا، خشيت أن أمتدح مؤلفات السفير، بينما يفترض أن في ليبيا ناشرا واحدا وروائيا واحدا ومؤلفا واحدا. لم يكن يخطر لي في الماضي أي خاطر من هذا القبيل، إلى أن كنت أحضر في لندن ذات مرة مهرجانا أدبيا ضم جميع فئات المهاجرين. كان لي صديق عراقي من أحب وأقرب الناس إلى نفسي، وطوال الحفل كنا معا، كما في كل المناسبات تلك الأيام، واقترب منا أحد أصدقائه وقال له، بكل جدية: «ترى من هو المصور الذي يسجل الأفلام للسفارة العراقية». وأذهلني السؤال، فقلت له: وهل تلحق السفارة بالعراقيين حتى إلى الحفلات العامة؟ قال: «تلحق بهم إلى كل مكان». كنت وبقيت أكتب ضد النظام العراقي، ولذلك خفت على صديقي من رفقتي. وانسحبت من صداقتنا من دون أن أبلغه السبب، لأنه لن يجبن ويقبله. ولا شك أنني تركت في نفسه مرارة وعتبا، لكن ذلك بالنسبة إليّ كان أسهل من شعوري بالذنب، إن هو تأذى أو لحق به ضرر، جراء صداقة رجل كان النظام يعتبره من خصومه. تعلمت منذ ذلك الوقت أن أداري الأمر عندما يتعلق برجال من بلدان تلاحق أبناءها إلى المهرجانات الأدبية لكي تعرف إلى أي شعراء يسمعون. وعندما رأيت عبد الرحمن شلقم يبكي في مجلس الأمن، أدركت أنه صار إنسانا حرا، يشبه تماما تلك الخواطر الوجدانية الشفافة، التي لا أدري كيف لم تمنعها اللجان، ولم يستنكرها الأخ القائد، فهي فيض من مشاعر إنسانية حقيقية، وملامح ضعف بشري صادق، أمام قساوة الحب والحياة. تردد عبد الرحمن شلقم طويلا في الانضمام إلى ثوار ليبيا، فهو زميل دراسة مع الأخ العقيد قائد الثورة، وقد عينه وزيرا للخارجية في إحدى المراحل، وهو منصب لا لزوم له، لأن السياسة الخارجية في يد رجل واحد مثل الداخلية والمالية والاقتصاد والإعلام والنفط وسواها. وقد خشي شلقم أن لا يبدو وفيا إذا ما انضم إلى سلسلة المستقيلين من السفراء والدبلوماسيين؛ غير أن المشاهد الدموية الخارجة من ليبيا أعفته من التزاماته الأدبية. هكذا حدثت سابقة في الأممالمتحدة.. فالوفد الذي أرسله القذافي للدفاع عن النظام نزل إلى مجلس الأمن يطالب بإسقاطه، والشاعر الذي كتب تجليات الضمير بكى من دون أن يفرح!