تتجه تونس لأن تزج نفسها في بداية النفق المظلم الذي لا أحد يعرف أين ستكون نهايته، وما هي الفاتورة التي سيدفعها الشعب التونسي من أجل أن يستفيق ثانية من دوامة العنف التي بدأت منذ الجمعة 25 فبراير وتواصلت حتى لحظة تقديم الغنوشي استقالته التي بالتأكيد لن تكون هي العصا السحرية لحل مشاكل هذا البلد، تلك المشاكل التي انفتحت ملفاتها دفعة واحدة بعد سقوط وهروب بن علي.وبالتأكيد، فإن عملية الانتقال من حكم شمولي إلى نظام ديمقراطي يجب أن تمر بمرحلة انتقالية تجمع ما بين القديم والجديد وتأخذ من هذا وذاك من أجل ألا يفقد المجتمع بعض إنجازاته وبعض مرافقه المهمة والحيوية وخاصة ما يتعلق منها بمفهوم إدارة الدولة وتنظيم الحياة والعلاقات الدولية وتنظيم انتخابات وغيرها من الأمور المهمة والمعروفة للجميع. واستقالة الغنوشي قد تمنحه راحة الضمير من أن يتخذ جملة قرارات قد تؤدي إلى وقوع بعض الضحايا ولكن الاستقالة بحد ذاتها ستفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الفوضى التي تجتاح الشارع التونسي الذي لا يزال يتحرك بتخبط وهو لا يعرف ماذا يريد ولا أحد يجرؤ أن يسأل: من يحرك هذا الشارع؟ وبالتأكيد ليس هنالك أجندة خارجية ولكن هنالك أجندات داخلية تحفز وتحرض وتحاول أن تتصدر الواجهة في هذه المرحلة بالذات بغية أن تتمكن من فرض نفسها في الشارع التونسي، خاصة وإن هنالك أكثر من 15 حزبا وجمعية مرخصة بالعمل السياسي، وكل منها يحمل أفكارا تختلف عن الآخر وتتقاطع مع الآخر والجميع يبحث عن موطئ قدم له في الحكومة القادمة حتى وإن تطلب الأمر إثارة الشارع التونسي ودفع البعض للعبث بالأمن في محاولة تبدو للمتابع بأن التوانسة شربوا الطعم وباتوا يستلذون المظاهرات وتنحي الحكام، لدرجة لم يعوا معها بأن هذه الأحزاب والجمعيات الكثيرة في بلد صغير من حيث المساحة والسكان تجعل الجميع هنا أقلية في أية انتخابات قادمة إن تم تنظيمها في منتصف يوليو (تموز) المقبل كما أعلن. أما الأغلبية فستكون لمؤيدي التجمع الدستوري الذي ربما سيتخذ تسمية جديدة، خاصة وأن التوانسة يؤكدون أن أكثر من مليونين من التوانسة هم أعضاء في هذا الحزب من عشرة ملايين أي 20% من الشعب وقد يكونون 50% من المؤهلين للتصويت، بحكم أن أعضاء التجمع هم من البالغين الراشدين ويحق لهم التصويت في الانتخابات القادمة. لهذا فإن الفوضى التي عمت تونس لم تكن عفوية ورغبة شعبية بقدر ما هي نوازع أحزاب قادرة على أن تلعب دورا حتى وإن كان سلبيا من أجل أن تؤكد للآخرين بأنها موجودة ولها مؤيدوها ويجب أن تحجز مكانا لها في الحكومة لكي تأخذ حصتها في الدولة التونسية التي يسعى الجميع لتقويضها في المرحلة الأولى من أجل تفتيتها ومن ثم الانتقال لإقامة دولة الأحزاب كما هو شأن الكثير من الدول التي لم تستوعب المراحل الانتقالية بشكلها السليم والصحيح وفشلت في بناء دولة، ولكنها نجحت في بناء أحزاب جعلت من الدولة تابعة لها بشكل أو بآخر. وبالتأكيد فإن مطالب هؤلاء لن تتوقف عند حدود استقالة الغنوشي بل سنجدهم في الجمعة القادمة يطالبون بتنحي فؤاد المبزع على خلفية أنه أيضا جزء من نظام بن علي، وهذا إن حدث - وهو أغلب الظن سيحدث - فهذا يعني بالتأكيد أن هنالك نفقا طويلا جدا للفوضى في هذا البلد الذي ظل يحتفظ بهدؤه سنوات طويلة.