قالوا إن كبت الحريات هو السبب الأكبر في ثورات الشعوب وجعلوا النموذج التونسي دليلا صارخا. حسنا، وماذا عن الحريات المذهلة في عهد الرئيس مبارك؟ الحرية المنفلتة التي لم تكتف بالنقد اللاذع للحكومة ووزرائها وفي الإعلام الرسمي أحيانا، بل طالت حتى شخص الرئيس وعائلته وزوجته وأولاده وبأشرس عبارات السخرية والتهكم.. ومع ذلك اندلعت ثورة شعبية أكثر عنفا وشراسة من ثورة تونس. قال آخرون بل ثورات الشعوب المسلمة تأتي حين يحل عليهم الكبت الديني، فهذا الرئيس المخلوع بن علي حظر الحجاب ومنع الأذان ولاحق الملتحين فثار شعبها، إلا أن هذه أيضا ليست مسلمة من المسلمات، فالثورة الشعبية في مصر اندلعت والحجاب يكتسح الشارع المصري حتى صارت غير المتحجبة استثناء ملفتا، والأذان يصدح والمساجد عامرة والنشاطات الإسلامية قائمة ومع ذلك ثار شعبها. إذن هي البطالة بدليل توفر هذا السبب في مصر وتونس، هكذا يقول بعض المشخصين لعارض ثورات الشعوب، وهذه أيضا ليست سببا كافيا فأغلب شعوب الأرض تعاني من البطالة وهي في ذلك بين مقل ومستكثر، ولم تسلم من البطالة حتى الدول الغنية، هل هو الفقر؟ لو كان الفقر سببا لكانت في معظم الدول الأفريقية وبعض الآسيوية وعدد من البلدان الأميركية الجنوبية ثورات لا تهدأ ونيرانا لا تخبو. كل الأسباب التي أشرنا إليها وغيرها ساهمت في تردي الأوضاع بعضها في تونس وبعضها في مصر، لكن الذي يجب التأكيد عليه حتى تعتبر بعض الدول العربية ذات الحالات المشابهة أن الفساد المالي والسياسي هما الأكثر خطورة وفتكا بالكيان كله. لن أتعرض للشفافية الغربية في محاربة الفساد المالي والإداري، فالمقارنة بين الدول العربية والغربية قياس مع الفارق، لكن لنأخذ نموذجا من العالم الثالث، الهند. فالبطالة تعشعش فيها، والفقر عاث في شريحة كبيرة من شعبها، لكن عدم وجود الفساد السياسي والمالي (أو وجودهما بنسبة غير ملفتة) لم يخلق للشعب الهندي مبررا لثورة شعبية على حكومته، فزعاماتها السياسية ورموز الدولة تتمتع بقدر معقول من المسؤولية والنظافة المالية والنزاهة السياسية. ولهذا لو قال لك أحد نتوقع ثورة شعبية عارمة في الهند ضد الحكومة الهندية بسبب الفقر والبطالة لاتهمت عقله. الخطأ الجسيم الذي ارتكبته كل من تونس ومصر كان في الاتكاء على الدعم الغربي بحجة قطع الطريق على الحركات المتطرفة، وهذا أمر مفهوم لو أن عينا على الرضى الغربي وعينا أخرى على الهم الشعبي. لكن الذي جرى هنا وهناك أن العين الغربية الراضية عن قطع الطريق على المتطرفين جعلت الحكومتين في هذين البلدين يغضان الطرف ومعهما الدول الغربية عن ملفين حساسين جدا الفساد المالي والفساد السياسي مما عجل بمظاهرات شعبية، فلما تراءت الفئتان نكصت الدول الغربية على أعقابها وبدأت مرحلة التلاوم التي لا تجدي مع ثورات الشعوب شيئا. الأمر الأخطر في التجربتين المصرية والتونسية ترويجهما فكرة مبدأ متخلف يقول «القمع الأمني للشعوب وبقبضة من حديد أو الفوضى»، وأثبتت التجربتان بالحقائق والأرقام على الأرض أن القمع الأمني الذي يغذيه الفساد السياسي والمالي هو الذي يؤدي حتما إلى الفوضى، وهذا هو أكثر الدروس التي يمكن أن نستخلصها من التجربتين المصرية والتونسية، وقى الله دولنا العربية من الفساد السياسي والمالي ما ظهر منهما وما بطن.