أول خبر سمعته في نشرة الأخبار المحلية عند وصولي الرباط، هو تظاهر الآلاف من أبناء المغرب في الذكرى الثامنة والعشرين للقرار الإسرائيلي بضم الجولان، احتجاجا على هذا القرار، الذي يوجز جوهر الصهيونية كحركة عنصرية استيطانية. ومن المعروف أن دماء جنود الجيش المغربي الزكية سقت تراب الجولان عام 1973. وتنقلت بين القنوات التلفزيونية المغربية فسمعت الأخبار، وشاهدت الدراما، وأنصتّ لقراءات من القرآن الكريم، فإذا بلغة الضاد تشعرني أني في داري وبين أهلي. ويكتسب هذا الشعور أهمية خاصة حين تقودك الرحلة إلى مدينة تطوان المغربية، وهي آخر مدينة على امتداد الأرض العربية، وصولا إلى المحيط الأطلسي، التي خلدها شاعر العروبة فخري البارودي في نشيده الذي كان يطرب آذاننا ونحن في سنوات الدراسة الأولى: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان هذا النشيد الذي يعكس نبض ومشاعر وإحساس نحو 400 مليون عربي يقطنون الرقعة الجغرافية المقدسة «الوطن العربي الكبير» التي تمتد على مساحة 14 مليون كيلومتر مربع، والتي هي مهد الديانات الثلاث، ومنبت حضارات إنسانية تعاقبت عبر آلاف السنين لتقدم للعالم إسهامات يحق لأبنائها أن يفخروا بها دوما، لأن الحضارة العربية توجهت للناس جميعا، فاحترمت قدسية حياتهم وحريتهم وكرامتهم، بغض النظر عن اللون، أو الجنس، أو العرق، ولذلك كانت قادرة على تحقيق تحول نوعي في حياة كل البشر، فحضارتنا العربية الإسلامية ليست حضارة إقصائية، أو عرقية، أو استكبارية، أو عنصرية تمييزية. ولذلك لم تعتمد أسلوب القضاء على الآخر طريقا وحيدا لإثبات الذات، أو احتلال الأرض، وادعاء الفوقية، كما تفعل الصهيونية وغيرها من الحركات العنصرية الغربية، بل تكاملت مع حضارات الشعوب وتاريخها، فكانت العروبة جامعة لا مفرقة، وكان غير العربي إما أخا في الدين للعربي، أو أخا في البشرية. عندما تحط الرحال في نواكشوط، عاصمة بلد المليون شاعر، موريتانيا، يدهشك منظر الرجال الملثمين، والنساء السافرات والمحجبات على حد سواء، اللواتي يقدن سياراتهن ويمارسن أعمال التجارة، ويملأن الشوارع والأسواق والبيوت نشاطا وحركة، بل إن هناك سوقا تجارية ملكيتها وقف على النساء فقط، وهذا لا يعني أن الرجال لا يعملون لدى المالكات، أو يستأجرون المحلات التجارية منهن. ويبتسم المرء ساخرا من النظرة السطحية جدا التي يروج لها الغرب عن المرأة المسلمة، والضجة التي يثيرونها حول المآذن أو الحجاب أو النقاب، متجاهلين واقع الشعوب وتجاربها التاريخية. وحين تنتقل إلى الجزائر، البلد الذي قدم المليون ونصف المليون شهيد ليؤكد عشق العربي المسلم للحرية، والكرامة، يحدثك أحد عن تجربته في دمشق إبان حرب التحرير عام 1973، حيث غادر وزملاؤه من الأطباء ومكثوا في دمشق طيلة فترة الحرب لمعالجة المرضى من أبناء العروبة الذين قدموا من أقطار عربية عدة للدفاع عن عروبة هذه الأرض والاستشهاد في سبيل الله من أجلها. ويعود حديث الذاكرة إلى الحقبة الاستعمارية التي عانت منها الجزائر طويلا، والتجارب النووية الفرنسية التي أجريت في الصحراء، وتجاربهم على الأسلحة الكيماوية التي ألحقت بالغ الضرر بالإنسان والطبيعة، فترى أن بلداننا كانت تستخدم حقول تجارب لتحقيق المزيد من الرخاء للمستعمرين في ديارهم على حساب حقوقنا ومصالحنا. ويمر الحديث على مشروع قانون تقدم به مائة برلماني جزائري يطالبون فرنسا بتعويضات واعتذار عن مائة وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني المقيت للجزائر، ويسأل أحدهم إن كنا شاهدنا البرنامج على «الجزيرة» الذي يسأل ما إذا كان الاستعمار أقسى أم أرحم من الحكومات التي تعاقبت على البلد بعد نيلها استقلالها، وقال إن من وضع هذا البرنامج لا يعرف ماذا يعني الاستعمار، لأنه من الواضح أنه لم يذق إذلال العيش تحت قمع الأجنبي، ولا يعرف جرائم الاستعمار، وإلا لما فكر في مثل هذا الموضوع. لقد قضى مليون ونصف المليون شهيد عربي مسلم من أجل أن ينعم شعبهم بالحرية، وبلدهم بالاستقلال، وكان أطفال العرب من البصرة إلى تطوان ينشدون «قد عقدنا العزم أن تحيا الجزائر». ولكن هذا لا يعني أن تحديات الاختراق والهيمنة قد انتهت فور الحصول على الاستقلال، بل إن المعركة ما زالت مستمرة من أجل تحقيق القرار العربي المستقل، الذي يرفض كل أشكال التدخل، والوصاية، ويبعد الطمع الأجنبي في ثرواتنا، والذي يترجم إلى ضغوطات وسياسات تفرق أبناء هذه الأمة وتنشر الفتنة بينهم، وتمنع التنسيق والتعاون والتضامن بينهم، لأن التعاون إذا ما تحقق سيعود على شعوبهم رخاء وازدهارا وحرية وكرامة، وعلى مكانتهم الإقليمية والدولية قوة وحضورا في كل المحافل الدولية. وحين تصل إلى تونس يُحدّثك مضيفك أن القميص الذي يلبسه الرجل في تونس اسمه «سوري»، لأن تجارا سوريين اشتهروا هناك بتجارة النسيج والألبسة التي أجادوا عبر القرون صناعتها. أما الآن فإن 75% من تجارة تونس مع الدول الأوروبية، لأن التجارة البينية بين كل الدول العربية تجارة متواضعة لا تليق بالتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة. ولكن، مهما يكن الواقع التجاري، وواقع الحدود، وواقع العلاقات سببا، فأنت ما إن تحل في بلد عربي، حتى تشعر بأنك في دارك، وبين أهلك، تتكلم لغتهم وتشاركهم حضارتهم ويشاركونك أفراحك وأتراحك، بعكس ما يحاول الإعلام الغربي أن يوهم أبناء العرب، بأن كل قطر عربي غارق في ذاته، وبعيد عن هموم هذه الأمة، وترى أن فلسطين الجامع الأكبر بين العرب، ويبقى تهويد القدس والحصار على غزة، الجرح الأعمق الذي يهتز له ضمير العربي في كل أقطاره، والذي يجمع بشكل عميق وفعال بين أبناء الضاد، حتى وإن لم تترجم هذه المشاعر بعد إلى أعمال على الأرض تترك بصماتها الإيجابية على مسيرة هذا الصراع بين قوى الحرية العربية، وقوى التحالف الغربي المتحالفة مع الوحشية الإسرائيلية. كل هذا الوطن العربي الجميل الرحب، الذي يمتلك إمكانات هائلة لمستقبل زاهر لأبناء العروبة جميعا، كان مغيبا عن ضمير وثقافة وأداء من استضافوا هيلاري كلينتون، وزير الخارجية الأميركية، في برنامج «من واشنطن»، حيث تحدث لها معظم الطلاب باللغة الإنجليزية، علما بأن الترجمة متوافرة للسيدة الشقراء، التي مارست ساعة من الاستهانة بعقول مشاهديها، حين تحدثت عن أن «الولاياتالمتحدة ستسهل للفلسطينيين والإسرائيليين التفاوض»، وكأن الولاياتالمتحدة تأخذ موقفا حياديا من هذا الصراع، وكأنها لا تقف بالمرصاد لأي قرار دولي يحاول من قريب أو بعيد ملامسة العدالة في فلسطين. وحين سُئلت سؤالا خجولا جدا عن استمرار الحصار في غزة، أجابت بما يؤكد دعمها العقاب الجماعي الذي يفرضه حكام إسرائيل على المدنيين العرب في غزة «حين نسرع في المفاوضات سنرى تقدما هناك، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا قررت حماس أن تكون جزءا من المستقبل»، دون أن تشير إلى مسؤولية الاحتلال وجرائمه عن حرمان الفلسطينيين من الحرية والعدالة طوال أكثر من ستين عاما، واعتمدت نفسها ناطقة رسمية باسم قادة المنطقة الذين تخشى عليهم «من الخطر الإيراني»، وعبرت عن حرصها «ألا تصل الأسلحة النووية إلى الأيدي التي يجب ألا تصل إليها». أما إسرائيل التي تمتلكها وتحتل أراضي العرب، وتمارس الإرهاب داخل فلسطين وخارجها، فلم تأت السيدة الشقراء على ذكرها. لم يسألها أحد عن المليون أرملة عراقية اللاتي هن حصيلة الغزو الأميركي للعراق. ولم يسألها أحد عن ملايين الأطفال اليتامى في العراق وفي فلسطين، بفعل سياسة نشر الديمقراطية، كما لم يسألها أحد عن أسباب دعمها للاستيطان وهدم المنازل والعنف الإسرائيلي المتواصل ضد المدنيين في فلسطين. لقد كان غياب اللغة العربية، والشعور الطبيعي بحق الدفاع عن العروبة في تناقض صارخ للاعتزاز الذي يشعر به المرء في حضور العروبة واستحضار قيمها وتاريخها، فهل يمكن إعادة النظر في النظم التعليمية في بلدان لغة الضاد، من أجل تسليح الأجيال العربية بالاعتزاز بلغتهم، وحضارتهم، وقيمهم، قبل الاعتزاز باللغات الأجنبية التي لا يصعب على أحد تعلمها وإتقانها في أي عمر وعند الحاجة؟