إنّ كل الحروب التي قامت بها الدول الإمبريالية منذ سنة 1991 سواء في العراق أو أفغانستان أو ليبيا، وما يحدث في سورية وما يُخطّط له في مالي هي حروب تفكيكية... إنّ العدوان على مالي سيستهدف بالدرجة الأولى الجزائر التي ستكون أولى الدول المتضرّرة منه وسيستهدف ثرواتها وسيادتها وهي التي احتفلت منذ فترة قصيرة بالذكرى الخمسين لاستقلالها". حين يعلن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، عن قبول الحكومة الجزائرية السماح للطائرات الحربية الفرنسية بعبور المجال الجوي الجزائري بكل حرية، لتشنّ غاراتها على مواقع الجماعات «الإسلامية الجهادية» المسلّحة في شمالي مالي، ليضعها بذلك في ورطة حقيقية، وحين يلتزم صُنّاع القرار الجزائريين عدم الإدلاء ببيانات أو تصريحات رسمية توضح على الأقل وجهة النظر أو المقاربة التي اعتمدت لتغيير الموقف، يحقّ لنا طرح الأسئلة التالية: ما هي المعطيات والدوافع التي عدّلت الموقف المبدئي الرافض للتدخّل العسكري الخارجي، فما بالك إذا كان تدخّلاً سافراً في شؤون دولة ذات سيادة أولاً، وفي دولة إسلامية، ثانياً، وفي منطقة غاية في الحساسية الجيو-استراتيجية باعتبارها بوابتها الخلفية، ثالثاً؟ ما هي اوراق الضغط أو الابتزاز أو الضمانات، أو في حدّها الأدنى، التطمينات، التي تلقّتها الجزائر مقابل تورّطها من حيث تدري أو لا تدري في مستنقع، هي تعلم علم اليقين أنّ ارتجاجاته لن تتوقّف عند الشمال المالي؟ ألم تقف الجزائر موقفاً «حيادياً»، حين نأت بنفسها عن تدخّل حلف شمال الأطلسي بليبيا، رغم علمها أنّها ستدفع ثمن موقفها ذلك باهظاً؟ ألم يكرّر المسؤولون الجزائريون على مسامع الجميع وعلى أكثر من صعيد، معارضتهم المبدئية لأي شكل من أشكال التدخّل العسكري في مالي، مُصرّين على أن الحل الأمثل والأجدى لا بدّ أن يكون سياسياً وسلمياً؟ ألم يرفضوا العرض الأميركي الذي وافتهم به وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، خلال زيارتها الأخيرة، والمتمثّل في مشاركة القوات الجزائرية، جنباً إلى جنب مع قوات أفريقية أو غربية أو كليهما، التصدي للحركات «الجهادية» وفي حربها على كل من تصمهم ب«الإرهاب»؟ ثم ألا يمكن أن يُفسّر موقفها الأخير على أنه مشاركة، ولو بشكل غير مباشر، في هذا العدوان ممّا قد يزجّ بالجزائر في متاهات هي، الآن تحديداً، في غنى عنها؟ أين وكيف يكون الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، قد نجح حيث أخفقت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون؟ لا يمكن مطلقاً أن نقنع بهذا الحديث المكرور عن مجرّد احتمال «وجود مصلحة مشتركة بين فرنساوالجزائر» في شنّ هذه الحملة واقتراف هذه الخطيئة، ولا نقول خطأ؟ كما لا يشفع ولا يبرّر ما ورد على لسان الديبلوماسي والوزير الأسبق عبد العزيز رحابي الذي يصرّ على أن «الجزائر لا تملك أي خيار» حين يعلّق مسألة السماح باستخدام المجال الجوي على شمّاعة «التزام الجزائر بالقرار الأممي عدد 2085، القاضي بتقديم تسهيلات عند نشر قوات عسكرية في البلاد». ولا حتى ما جاء على لسان المتحدّث باسم خارجيتها، السيد عمار بلاني، المُصرّح: «ينبغي أن نلاحظ أن مالي، في إطار سيادتها الكاملة، طلبت مساعدة قوى صديقة لتعزيز قدراتها الوطنية في مكافحة الإرهاب". إن القبول بالتدخّل العسكري والسماح بعودة المستعمر الفرنسي إلى ما يعتبره حدائقه الخلفية، في منافسة محمومة مع الأميركيين والصينيين لوضع اليد على مقدّرات أفريقيا، ضمنياً كان أو علنياً، قسراً أو رغبة، لن يقضي على هذه الحركات ولن يحجّم دورها. على العكس تماماً فإنّ تشظّي هذه المنظّمات المسلّحة وتفرّقها في مسارح لها فيه امتداد وعمق وروافد، وفي واقع جيو-استراتيجي وجيو-سياسي متفجّر، وعلى حدود أقطار تعيش حالة من اللاتوازن، أو على حافة التحوّل إلى «الدول الفاشلة» في ظلّ مناخ الفوضى الأمنية والعسكرية، كل ذلك سيضاعف من حجم الخطر ويوسّع دائرته. الأدهى والأمر أنّه قد يؤجّجه داخل الجزائر نفسها، خصوصاً أن جذوره وفتائل ألغامه الكامنة والملجمة تتوالد كالفطر السام، فما بالك إذا قُدّمت الذرائع والمبرّرات؟ سياسة المشي على الحبال، التي كانت في مرحلة ما مغرية، ما عادت آمنة وها قد عمدت فرنسا إلى توريطها في هذا الملف الانفجاري البالغ الخطورة، وفي متاهات خوض حروب بالوكالة، التي لا تضمن مطلقاً لا أمناً ولا قراراً سيادياً، وإن توقّفت «العمليات النّوعية» عند الحدود الجزائرية. إنّ رهان حكومة الجزائر على أن العدوان الفرنسي، الذي لا يستهدف كما هو مُعلن «استئصال الجماعات الجهادية»، بل توظيف لهذه الذّريعة بغية التسلّل من جديد نحو مجالات حيوية تخسرها تباعاً، هو رهان غير مضمون ومغامرة غير مأمونة العواقب. ففرنسا هولاند لا تختلف كثيراً عن فرنسا ساركوزي، إذ السياسات والاستراتيجيات الكبرى تحدّدها المصالح الحيوية للدولة، وإذا كان ساركوزي قد أرسل طائراته وعينه على آبار النّفط الليبية، ما حدا ببارلسكوني أن يصرّح ودون مواربة: «ما حدث في ليبيا جرى وفق قرار للحكومة الفرنسية بالذهاب إلى هناك والتدخّل في نزاع داخلي وتقديمه أمام المجتمع الدولي في إطار ثورة»، فإنّ فرانسوا هولاند، يرسلها لوضع اليد على مقدّرات مالي وثرواتها: مناجم اليورانيوم المالية النيجيرية، على سبيل الذكر لا الحصر! أما الحديث عن «إيقاف هجوم المجموعات المسلّحة الإرهابية باتجاه الجنوب» وعن «تفادي انهيار مالي» وعن «والمسار السياسي ومسار التنمية»، كما يحاول لوران فابيوس، إيهامنا، فمغالطات وضحك على ذقون من يتراقصون كما تراقص بعضهم في بن غازي رافعين أعلام الغزاة! مُمتنّين شاكرين لفرنسا عمليات «هرّها الوحشي، !Opération Serval". من تخونه ذاكرته فليعد بها قليلا، قليلا إلى أفغانستان والعراق، أو حيثما حلّت قوات المستعمر. واهم أيضا من يعتقد أن عملية «الهرّ الوحشي» ستكون مجرّد نزهة. فهذا وزير الدفاع الفرنسي جون ايف لو دريان، Jean-Yves Le Drian، نفسه، يقرّ مناقضاً تصريحات سابقة منتشية بخمرة ذاكرة إستعمارية أنّ: «الوضع صعب». وأنّهم كانوا «يدركون من البداية أنّ العملية ستكون صعبة جداً»! الجنرال كارتر هام، Carter Ham، قائد القيادة المركزية الافريقية، هو الآخر، يُعزّز التصوّر نفسه بقوله: «إنّ عملية مواجهة الجهاديين في مالي مُعقّدة وتحتاج لأشهر من التخطيط، نظراً لارتباط الأزمة بأكثر من طرف في المنطقة ولأن الحكومة في مالي أصبحت ضعيفة بعد الانقلاب". هؤلاء الذين يوهموننا أنهم بعدوانهم هذا إنّما يحاربون «الإرهاب» ويجتثّون حركات تهدّد الأمن والسلم، هم أنفسهم من زرعوها ودرّبوها وسلّحوها!! الاستراتيجيون وصنّاع القرار والولاياتالمتحدة تحديداً، أسّسوا لسيطرة هذه الجماعات «الجهادية» المتمركزة في المنطقة، على قوس يخترق أهم المصالح الاستراتيجية الفرنسية، والغربية عموماً، في منطقة تتجاوز مساحة القارة الأوروبية ذاتها، بدءاً من مالي فموريتانيا فالنيجر. أين تختزن أضخم مناجم اليورانيوم. هناك حصلت شركة «أريفا، Areva» الفرنسية على امتيازات استغلالها منذ عقود، وهي التي تزوّد ثلث المفاعلات المنتجة للطاقة في فرنسا بالوقود النووي. هذا ما يفسّر الإنزلاق فوق رمال مالي الحارقة أو تكبّد مغامرة الغرق في حمم «قوس الأزمات المجهول» كما توصّفه صحيفة «الأندبندنت، The Independent» البريطانية، في افتتاحيتها، قوس مُمتدّ من باكستان فسورية. فما أفرزه هذا الذي يسمّونه «ربيعا» وإن بتفاوت، فالخليج الذي يراوح بين النفخ في أوار نار الفتنة السنية - الشيعية حيناً والتذمّر من تنامي «الإسلام السياسي» حيناً آخر. قوس أزمات تتوالد يولّي وجهته صوب نفق مظلم... مجهول! أما عن «الإرهاب» فقد كان ولا يزال الفزّاعة التي يوظّفونها متى شاؤوا ويجيّشون الجيوش لمحاربته متى قرّروا. أي إرهاب هذا الذي يُصبح محموداً حين يخوض حروبهم بالوكالة فيعبّد الطريق لدبّاباتهم وأساطيلهم؟ أليس هذا «الإرهاب» الذي يدعمونه ويباركونه هو الذي يكاد يحوّل سورية اليوم إلى ركام وإلى «دولة فاشلة»؟ أليسوا هم من رعوه ووفّروا له سُبل التناسل، كالفطر السام، يستثمرون فيه ويبتزّون به؟ هذا عن الإرهاب، فماذا عن الاستقرار الإقليمي؟ أليست الولاياتالمتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي من أغرقوا ليبيا بالأسلحة، بل وتركوا عمداً مخازن العتاد للنّهب والسرقة دون رقيب أو حراسة وفّروها سريعاً لآبار النفط أياماً قبل التدخّل، حتى بلغ بعضها تونسوالجزائر ومصر وغزة، بل ونيجيريا أيضاً! ألم تعمد وزارة الدفاع الأميركية إلى رصد ميزانية قُدّرت بحوالي 40 مليون دولار من أجل شراء أو استرجاع صواريخ ستينغر الضائعة والتي بلغ عددها 20 ألفاً، ولا تزال تشكّل كابوساً أمنياً؟ لماذا تعاموا، وهم من يملكون مضافاً لكل أقمارهم وأساطيلهم ووكالات استخباراتهم، أسراباً من الطائرات دون طيار، المُعلن منها والمخفي، تتنصّت وتمسح وتراقب كل صغيرة وكبيرة، على ما لا يقلّ عن 250 سيارة مشحونة بالأسلحة خرجت من ليبيا وتوجّهت إلى شمال مالي؟ صحيح أن «مالي قد تشكّل ملاذاً للقاعدة وللحركات المسلّحة لفترة وجيرة فقط»، وذلك لأن «تضاريسها تختلف عن تلك الجبلية الوعرة الموجودة في أفغانستان»، كما يتوقّع مارك شرودر، Mark Schroeder، محلّل شؤون أفريقيا في مؤسسة ستراتفور، Stratfor، للتوقّعات الاستراتيجية والأمنية، إلاّ أنّ التداعيات الخطيرة للتدخّل العسكري الخارجي، «ستؤجّج التوتّرات المحلّية وتترك ارتدادات دموية تنتشر إلى ما وراء حدود البلاد، مما قد يزيد من خطر امتداد الهجمات «الإرهابية» إلى دول أخرى»، وسيفرض تحدّيات جسيمة ليس فقط للولايات المتحدة وأوروبا فحسب، بل لكلّ الدول المجاورة». لعلّ هذا ما دفع بمدير المجلس الأطلسي بواشنطن، المعني بأفريقيا، السيد بيتر فام، Peter Pham، إلى اعتبار ما يجري في مالي «شبيهاً إلى حد كبير بما كان يحدث في أفغانستان في الفترة التي سبقت هجمات 11 ايلول، في ظل تدفّق تنظيم القاعدة وجماعات إسلامية أخرى من دول مجاورة إلى مالي». روبرت فيسك، Robert Fisk، هو الآخر، يوصي «بعدم المراهنة على نهاية سارّة»، حين يعتبر «أنّ الفرنسيين بغطرستهم التي تشبه غطرسة الأميركيين والبريطانيين في حربهم العبثية على «الإرهاب» لم يفكّروا عندما أرسلوا جنودهم للقتال في مالي، «الصحراء - القبو» الجزائري الذي سيبتلع الفرنسيين والآخرين". ما أقدمت عليه المجموعة المرتبطة ب«تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي»، التي تطلق على نفسها إسم: «كتيبة «الموقّعون بالدم الإسلامية»، وهي تهاجم وتحتجز 41 غربياً، من بينهم أميركيون وفرنسيون وبريطانيون ويابانيون، كرهائن في منشأة غاز بمنطقة عين أمناس، جنوب شرق الجزائر، وتزنّر بعض عناصرها بأحزمة ناسفة، ثم تلغيمهم المصنع، وتهديدهم بتفجيره، وإنزالهم العلم الجزائري واستبداله بعلمهم، بعد قيامهم بتجميع الرعايا الأجانب وتصويرهم مكبّلين، «انتقاما من الجزائر التي فتحت أجواءها أمام الطيران الفرنسي»، كما ورد على لسان المتحدّث باسمهم، وما يردنا من أنباء إدارة الحكومة الجزائرية للأزمة واعتمادها نهج القوة لتحرير الرهائن دون التشاور مع دولهم، ثم وقوع ضحايا، كل ذلك ليس إلاّ بعض ما حذّرنا منه ولا نزال. إنها الشرارة الأولى لنار لو استعرت، ستسري ليس في هشيم الجزائر فحسب، بل في كامل منطقة هي أكثر من يوم مضى واقفة على شفير الهاوية! شمال أفريقيا ومنطقة الساحل باتا مستهدفين بالحروب التفكيكية، والجزائر المحاصرة بفوضى غير خلاّقة تعزّز بقرارها «الخطيئة» موقعها كهدف ضمن ما تبقّى من الأواني العربية المستطرقة، مسرحاً ل«استراتيجية اإسرائيل للثمانينيات»، وثيقة تفتيت الأمة العربية. لقد تمّ تدمير الجيش العراقي وحُيّد الجيش المصري، ويُستنزف اليوم الجيش السوري، والجيش الجزائري الآن بعين العاصفة. القبول أو الرضوخ للقرار الفرنسي مهما كانت المبرّرات كان الخيار الخطيئة، خيار المستجير من الرمضاء بالنار!! فهل يعقلون؟