أمام وحشية الجهاديين في عملية احتجاز الرهائن بموقع تيغنتورين الغازي بعين أميناس، كان رد الجيش الجزائري أعنف. هجوم فوري بلا أدنى حرص واضح على حياة الرهائن، لأنه حسب قراءة العسكريين الجزائريين "في مواجهة الارهاب، لا مكان للتفاوض ولا للابتزاز ولا للمهادنة". بهذا الأسلوب ردت الجزائر على انتقادات واشنطنولندن وطوكيو. وهي بذلك توجه رسالة مزدوجة (رسالة للجماعات المسلحة التي تعرف جيدا استراتيجية النظام وفي نفس الوقت رسالة الى المجتمع الدولي الذي فهم جيدا أنه لا أمل في التأثير على هذا التوجه, ولا أحد يجادل بأنه بالرغم من عنف التعامل وما خلفه من قتلى، سيحاول النظام الجزائري تحقيق اقصى استفادة ممكنة من تعامله المتشدد, سواء تجاه الارهابيين او اتجاه الحكومات الامريكية او البريطانية, لكنه موقف يضع فرنسا في موقف حرج. فعندما يندد دافيد كاميرون بعدم إخبار بلاده،و عندما تأسف للطريقة التي تعاملت بها الجزائر، يخرج فرانسوا هولاند بتعليق مؤدب مؤيد لأسلوب الحكومة الجزائرية. صحيح أن هذا التأييد ليس سوى ظاهريا. فباريس تعرف جيدا أن نجاح تدخلها في مالي يرتكز في جزء كبير على تعاون "الحليف" الجزائر، وبالتالي ليس امامها خيار آخر سوى تأييد الاسلوب الصارم والقوى الذي ميز التعامل مع عملية عين اميناس. ويبقى السؤال الكبير هو معرفة ما إذا كانت الثقة التي وضعتها باريس في نظام معروف بتعامله الملبس والغامض، ستكون لها آثار مستقبلية. حسب حصيلة مؤقتة وغير نهائية, أسفر الهجوم الذي شنته وحدات الجيش الجزائري على ثلاث مراحل - الاولى يوم الخميس في المجمع السكني للموقع، والثاني والثالث يومي الجمعةوصباح السبت داخل موقع الانتاج - أسفر عن تحرير 685 رهينة جزائري و 107 رهينة غربي ومقتل 23 رهينة من جنسيات مختلفة, ومقتل 32 جهاديا و 25 جثة متفحمة, لم يتم التعرف بعد على هويات أصحابها. حصيلة ثقيلة تطرح العديد من التساؤلات والانتقادات. لماذا قررت الجزائر الهجوم؟ هذا القرار لم يفاجئ أحدا، ويندرج في سياق منطق سياسي ايديولوجي يفضل القضاء على الإرهابيين اكثر من الحرص على حياة الرهائن, وهو تصور مشابه بشكل أو بآخر لتصور الروس الذين يفضلون في مثل هذه العمليات التي يكون موضوعها عدد كبير من الرهائن (كما حصل في مسرح دوبروفكا بموسكو سنة 2002 او مدرسة بسيلان سنة 2004 شن هجمات تكون حصيلتها في النهاية مقتل مئات الرهائن . وفي مثل هذه العمليات تكون المخاطر مضاعفة حسب عدد الارهابيين وعدد الرهائن، وليست هناك دول كثيرة لها من الامكانيات والقدرات التقنية والبشرية لمواجهة مثل هذه المواقف. فالسلطات الجزائرية تريد قبل كل شيء منع فرار الإرهابيين برهائنهم نحو ليبيا المجاورة. بل أكثر من ذلك تفادي حصار طويل سيسلط الأضواء على مطالب الخاطفين.. ومن هذه الاعتبارات يمكن تفسير هذا الخيار الذي قررته السلطات الجزائرية بدون تردد او تشاور مع الدول التي يوجد مواطنوها من ضمن الرهائن. والملاحظ أن "الجزائر حساسة جدا فيما يتعلق بسيادتها, وفي مثل هذه القضايا لا يمكن تصور إقدامها على التشاور, اللهم اذا كان ذلك شكليا مع حكومات دول أخرى. وهذا ما يفسر امتعاض العديد من العواصمالغربية (لندنوواشنطن) وموقف باريس المساند للجزائر لاعتبارات اهمها أن باريس لا تريد إزعاج حليف جديد تقول عليه كثيرا في حربها في مالي هل الحدود مع ليبيا مؤمنة؟ المنطقة التي شهدت العملية هي منطقة الطوارق، منطقة شاسعة تمتد إلى غدامس جنوب "غات" لا تتحكم فيها لا الجزائر ولا ليبيا. وتجار المخدرات والاسلحة والمحروقات والمواد الغذائية وغيرها يسلكون فيها عدة طرق، مثل عصابات تهريب المهاجرين السريين القادمين من افريقيا جنوب الصحراء, وملتقى طرق هذه الأنشطة غير المشروعة يقع على مستوى الممر المسمى "سالفادور" في المثلث الذي تتقاطع فيه الحدود بين ليبيا والجزائر والنيجر. في هذا المحور وقعت معارك عنيفة قبل اسبوع بين قوات ليبية مكلفة بمراقبة الحدود وعناصر جماعة اسلامية قادمة من مالي على طول الحدود مع النيجر و أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 9 من الحرس الليبيين حسب مصادر محلية. "هذا النوع من المواجهات ليس نادرا، يقول مسؤول ليبي محلي ينتمي لقبائل التوبو، لقد تعبنا، لا أحد يساعدنا فعلا، الحكومة الليبية التي من المفروض أن تزودنا بمعدات المراقبة الليلية تتذرع بأنها لا تتوفر على الموارد, لأن أموال النظام السابق ماتزال مجمدة. والنتيجة نحن من يشتري معدات الرؤية الليلية. لكن مواردنا محدودة...." ويضيف هذا المسؤول المحلي أن سهولة اختراق الحدود يعود أيضا الى تصفية حسابات مرتبطة بالثورة الليبية. فالجزائر ساندت القدافي إلى آخر لحظة. بينما كنا نحن نحاربه، وفر الى الجزائر العديد من افراد عائلة القذافي واركان نظامه، وظل العديد من المقاتلين الموالين للقدافي يتنقلون عبر الحدود. وردا على هذا التعاون.قررنا عدم عرقلة تحرك الجماعات المسلحة بما فيها مقاتلو القاعدة في المغرب الاسلامي وجماعة انصار الدين الذين يحاولون الدخول الى الجزائر عبر ليبيا.والاسلاميون يعرفون ذلك منذ عدة اشهر، ووزير الدفاع الليبي يساندنا، أما الجزائريون فليتدبروا أمرهم مع مسلحيهم، هذا لم يعد مشكلنا. هل هناك يد خفية تقف وراء ذلك؟ تفسير السلطات الجزائرية كما سرعة اتخاذ قرار الهجوم وبالخصوص السهولة التي يمكن بها المهاجمون من السيطرة على الموقع وأخذ الرهائن. تثير عدة أسئلة محيرة، فمثل هذه المنشآت الغازية الحيوية، من المفروض أن تكون مؤمنة بشكل جيد، و المثير أن الجهاديين تمكنوا من التحرك دون أن ينتبه إليهم أو يراهم أحد في منطقة مكشوفة منبسطة مثل طاولة بلياردو، لكن مثل هذه الاختلالات الأمنية يمكن إرجاعها إلى ضعف كفاءة الجهاز الأمني الجزائري الذي ينخره الفساد، وهو أمر يتفق حوله العديد من المتتبعين، لكن الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر سنوات 1990، أظهرت أيضا قدرات الأمن العسكري الجزائري على اختراق واستخدام الجهاديين. وهكذا عادت نظرية المؤامرة من جديد إلى الواجهة, خاصة وأن هذا الهجوم جاء بعد أيام على تحول جدري في الموقف الجزائري، فالجزائر التي ظلت دائما تعارض أي تدخل أجنبي - و بالأخص الفرنسي - في مالي، قررت في النهاية السماح باستعمال أجوائها من طرف الطائرات الفرنسية، مما أثار استغراب وتنديد الرأي العام الجزائري, خاصة وأنه علم بالقرار من باريس وليس من الجزائر. ومثل هذه العملية تتطلب عدة أسابيع من التحضيرات، لكن التطورات الأخيرة في المنطقة ربما دفعت الجماعة الجهادية الى تسريع الهجوم الذي قدم "»كرد على التدخل السافر للجزئر التي سمحت باستعمال مجالها الجوي من طرف الطيران الفرنسي«". هل هناك بعض القطاعات في الدولة أو الأجهزة الأمنية المعارضة لإنضمام الجزائر الى جانب الغرب، تركت بشكل مقصود الجهاديين يسيطرون على الموقع، ليعيدوا شبح »"الحرب القدرة" لسنوات 90 من جديد؟ هذا الاحتمال ممكن، لكن البعض، على العكس من ذلك يعتقدون بأن هذا الهجوم يتوخى إجبار النظام على إظهار المزيد من العزم في محاربة الجماعات الجهادية في شمال مالي التي تقوت في المدة الأخيرة بمزيد من الرجال والعتاد وبالخصوص بالوقود المهرب من التراب الجزائري عبر 1400 كلم من الحدود غير المراقبة، والملاحظ أيضا أن عددا من الرهائن الغربيين هم من جنسيات دول مطلوب منها أن تلعب دور الداعم والمساند للعملية الفرنسية وبعثة دول غرب افريقيا في مالي. من هم الخاطفون؟ هم ينتمون إلى كتيبة "»الموقعون بالدم«" المتمركزة في شمال مالي ويقودها مختار بلمختار، هذا الجزائري البالغ من العمر 40 سنة، ويعتبر أحد أبرز الوجوه الجهادية في المنطقة. وطيلة 25 سنة الأخيرة. ظل يتنقل من تنظيم جهادي إلى آخر حسب الانشقاقات والمواجهات مع قيادات جهادية أخرى. خلال الحرب الأهلية الجزائرية لسنوات 90، كان ينتمي للجماعة الاسلامية المسلحة. التحق سنة 1989 بالجماعة السلفية للدعوة والقتال، وهناك التقى بالعماري السيفي, الملقب عبد الرزاق البارا (الذي قضى عدة سنوات في الجيش الجزائري كمظلي)، الذي نفذ عملية اختطاف 32 من السياح الأوربيين سنة 2003، اختلف البارا مع بلمختار حول الزعامة على »المنطقة 9« (الصحراء) التي تتمركز بها طرق التجارة غير المشروعة بكل أشكالها. في النهاية، سيتم اعتقال البارا في ليبيا سنة 2004، وتم تسليمه للجزائر، حيث مازال ينتظر المحاكمة حتى الآن. أما بلمختار، فإنه لايزال يواصل طريقه مازجاً بين »الجهاد« و »التهريب«، لكنه فرض نفسه قائداً للمنطقة 9 سنة 2007، عندما أعلنت الجماعة السلفية للدعوة والقتال الانضمام لتنظيم القاعدة وتحولها إلى فرعها في المغرب الاسلامي. بلمختار، المنافس القوي لعبد الحميد أبو زيد، أحد مسؤولي تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي، تعرض في النهاية إلى اعتراض أمير الجماعة عبد المالك دروكدال في أكتوبر الماضي. وشوهد خلال الأشهر الأخيرة في ليبيا، حيث اشترى أسلحة، كما شوهد في غاو أوتومبوكتو في مالي. وإذا كانت عدة مصادر تقول بأن بلمختار يغريه التحالف مع حركة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا (ميجوا) المتواجدة في مالي، فإنه استطاع من خلال تنفيذ عملية عين أميناس، تأكيد أنه قادر على العمل والتحرك بمفرده. وما يؤكد ذلك، أنه وجه دعوة مباشرة لفرنسا من أجل »التفاوض« لإنهاء الحرب في مالي. وأبدى استعداده لمبادلة الرهائن الأمريكيين مقابل الإفراج عن عمر عبد الرحمان المصري المحكوم بالسجن مدى الحياة بتهم التخطيط لتنفيذ هجمات ضد أهداف في نيويورك، وعافية صديقي العالمة الباكستانية التي حاولت إطلاق النار على أحد الجنود الأمريكيين سنة 2008 في أفغانستان والمعتقلة أيضاً في الولاياتالمتحدة. وإذا كانت واشنطن متضامنة مبدئياً مع باريس رغم المفاجأة، في حربها في مالي، فإنها لا تتقاسمها نفس التحليل حول الأهداف، حيث تعتبر واشنطن أن هذا التدخل الفرنسي سيحيي الكثير من الشياطين ظلت حتى الآن تستهدف مباشرة الولاياتالمتحدة. واشنطن أعلنت أنها بدأت المساعدة من خلال نقل المعدات والجنود، وأنها تنسق مع باريس المعلومات الاستخباراتية وصور الأقمار الاصطناعية الملتقطة في المنطقة، كما أنها تدرس طلب باريس بتموين الطائرات جواً. لكن واشنطن تستبعد حتى الآن إمكانية إرسال جنود إلى الميدان، ومازال الحديث مستبعداً عن تنفيذ ضربات أمريكية ضد قيادات الجهاديين في شمال مالي، كما هو الشأن في اليمن أو الصومال أو باكستان أو أفغانستان. والتحليل السائد في واشنطن أن هذه العملية في مالي ستستمر في الزمن، وأنها لن تنتهي في ستة أشهر، بل في الحقيقة، ليس هناك أفق منظور. ويرى الأمريكيون أنه خلال سنة أو ثمانية أسابيع سيحل موسم الأمطار الذي سيجمد الوضعية في المنطقة حتى شهر شتنبر، وبالتالي إذا لم تكن القوات الافريقية جاهزة للقتال في أسرع وقت ممكن، من المستبعد توقع حدوث شيء مهم قبل الخريف المقبل. ويعتقد المحللون الأمريكيون أن فرنسا بدأت صراعاً في المنطقة لن تتمكن من حله بمفردها، وجرت إليه بالقوة شركاءها، مشككين في استنتاجات باريس بأن سقوط باماكو كان وشيكاً... وبرأى المتتبعين، فإن واشنطن ربما كانت تفضل توقيتاً آخر، وربما ليست متفقة مع تحليلات باريس حول خطورة التهديد، نظراً كذلك لكون المصالح الأمريكية في غرب افريقيا أقل أهمية من المصالح الفرنسية، ولكن هناك قناعة راسخة بأنه لا يمكن ترك القاعدة في المغرب الاسلامي وحلفائها يسيطرون على مالي. وبالتالي ستكون واشنطن مرتاحة، إذا ما استمرت ونجحت فرنسا وحلفاؤها الأفارقة في الاطلاع بقيادة العمليات. بتصرف عن «ليبراسيون» الفرنسية