عنوان شجاع هو «ارتدادات الربيع العربي»، اختارته الندوة السنوية ل«مهرجان القرين» التاسع عشر في الكويت هذه السنة، لتجمع حوله نخبة من المفكرين والباحثين، في مجالات مختلفة، ومن كل بلد عربي. عنوان شجاع لأن الثورات لا تزال تنزف وتحصد الأبرياء، ولأن الخوض في موضوع ساخن إلى هذا الحد، من قبل باحثين، يحتاج درجة عالية جدا من الموضوعية وبرود الذهن. لذلك بادر الدكتور محمد الرميحي، منسق الندوة إلى القول في كلمته الافتتاحية: «أمامنا موضوع يستحق التفكير فيه بعمق، بعيدا عن عناوين الصحف أو نشرات الأخبار». وقال أيضا: «نحن هنا لنتدارس بوعي طرق ووسائل معرفة عوامل الإحباط والتنبيه إليها قبل أن يقع المحظور، ونتطلع إلى ضوء الأمل، في ظل نقاش حر ومستنير»، معتبرا أنه «خلال سنتين تغير كل شيء، ولم يتغير شيء. حدث تغيير عندما نتحدث عن السلطة ولم يتغير شيء عند الحديث عن استخدام السلطة». وبدت مشاركة أرشاد هرموزلو كبير مستشاري الرئيس التركي عبد الله غل، والمعني بملف العلاقات التركية - العربية، لافتة، خاصة أنه ألقى كلمة المشاركين في جلسة الافتتاح. كان من حسن تنظيم هذه الندوة التي أقامها «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» الأسبوع الماضي، أن المحاور قسمت بحسب البلدان، هكذا كان للمصريين أن يتحدثوا عن تجربتهم، وكذلك تحدث الليبيون والمغاربة والتوانسة، ومثلهم فعل الخليجيون والأردنيون واللبنانيون واليمنيون. وبقدر ما بدت التجارب متفاوتة ظهرت التشابهات جديرة بالاهتمام أيضا. وعن هذا المتشابه، تحدث الباحثان العراقيان المتخصصان في علم الاجتماع، فالح عبد الجبار ودارم البصام. فالح عبد الجبار تطرق إلى النظريات الكبرى للديمقراطية، ورأى أن «الديمقراطية نشأت حيث كانت الدولة ضعيفة، بينما الدولة العربية، في العموم، قوية ومسيطرة على الممتلكات والثروات»، معتبرا أن شعار «حرية.. إخاء.. مساواة»، الذي كان رمزا للثورة الفرنسية من المحال تطبيقه على ثورات الربيع العربي، بسبب غياب المقومات الأساسية، وعلى رأسها الطبقة الوسطى الحرة، لأنها في أغلبها مكونة من الموظفين المدينين للدولة بمدخولهم ورزقهم. أما الباحث العراقي دارم البصام فوجد أن الثورات التي تحدث في العالم العربي هي «زاد دسم للباحثين ليستخلصوا منها نظرية اجتماعية تسهم في التراث العالمي». ووصف المرحلة الحالية بأنها لم تصل إلى الديمقراطية؛ «فبعد سقوط الديكتاتوريات تأتي مرحلة (ما بعد الاستبداد)، وهي لا تختلف كثيرا عما سبقها. فخلال هذه الفترة يتماهى المقهور بسلوك أسياده ويعيد إنتاجه»، قبل أن يصل إلى بر الأمان. ووصف البصام ما يجتاح المنطقة العربية ب«الموجة الرابعة للديمقراطية التي تأتي في زمن وفرة المعلومات، أما الموجه الثالثة فشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية في زمن شح المعلومات»، مما يجعل الفرق شاسعا بين الموجتين. اختلف المتحدثون أثناء المناقشات حول إذا ما كانت الثورات العربية هي فعل حراك داخلي خالص، أم أنها أتت بسبب تحريك خارجي ومؤامرة مدبرة؟ اتفقوا على أن الوضع في البلدان العربية لم يكن ليحتمل البقاء على حاله، لكنهم اختلفوا حول تقييم نتائج الثورات؛ فأعرب البعض عن تفاؤل كبير لأن أنظمة استبدادية قد ولت، بينما أعرب آخرون عن خشيتهم مما سيأتي، وقد يكون تقسيما أو تشتيتا أو مزيدا من الحروب. لكن اللافت أن ثمة ما يشبه الإجماع بين الحاضرين على أن الثورات قد اختطفت من أيدي أصحابها الذين بدأوها، من دون آيديولوجيات أو شعارات كبرى، وإنما بهدف الحرية والكرامة. وهو ما جرّ كلاما كثيرا حول الحركات الإسلامية التي قطفت وحصدت، ومدى قدرتها على الحكم. وحين جاء دور رضوان السيد قال إنه «وراء الظاهرة الإسلامية الغلابة وشعبيتها الكبيرة سببان، وهما الخوف العميق على الدين من الغرب العدواني المهاجم والإيمان الشديد بأن الإسلام يتضمن نظاما كاملا في الاعتقاد والاجتماع والسياسة أيضا». وأضاف شارحا أن هذا يمهد «لوضع الشريعة كلها والدين كله في يد السياسة»، معتبرا أن خوفه ليس على الدولة، «لأنها ستعود وينتظم أمرها، وإنما على الإسلام؛ فالمؤسسات الإسلامية أصبحت ضعيفة ومنقسمة». واستدرك بالقول: «ماذا سيحدث بعد أن ندخل المقدس على الدولة؟ إذا كانت اللجان الشعبية حكمتنا 40 عاما؛ فكيف إذا دخل المقدس؟». وإن كانت الأبحاث قد وقعت في التنظير الشديد أحيانا فإن الشهادات الحية الطالعة ساخنة من قلب الثورات بدت الأكثر جذبا وتأثيرا على الحضور. منها شهادة القيادي المستقيل من جماعة الإخوان المسلمين في مصر ثروت الخرباوي، الذي تحدث عن مشاركة «الإخوان» في الثورة، ومن ثم وصولهم إلى السلطة، ناقدا وشارحا وقائلا إن «أجندة الجماعة وأولوياتها تختلف عن أولوليات الشعوب ورغباتها». ووصف تنظيم الإخوان بأنه «فاشي لا يحترم الحرية ولا يترك مجالا في داخله للإبداع. كما أنهم (أي الإخوان) لا يجيدون وضع خطط طويلة الأجل، هم ينتظرون الفعل لتكون لهم ردة فعل». حافظ غالبية المتحدثين على هدوء علمي ساد الجلسات، وهو ما انسحب على جلسة الخليج العربي التي تحدثت فيها الإماراتية ابتسام الكتبي والعماني محمد الرواس. بحيث اعتبرت الكتبي أن «مستقبل دول مجلس التعاون مرهون بالسنوات المقبلة بتطور أدائها الداخلي والخارجي». وتساءلت حول «مدى قابلية الملكية الدستورية للتطبيق في الخليج، وهل دول الخليج مهيأة لها، وما شروطها المتوفرة؟ وما محاذيرها في البيئة الخليجية؟ وما البدائل في حالة عدم التهيؤ والاستعداد؟»، أما الرواس فاعتبر «الربيع العربي واقعا لا مناص منه، ولا يمكن تجاهل إفرازاته، وأي هروب إلى الوراء هو بمثابة حكم بالإعدام على الدول والشعوب». بعض الأبحاث كانت بمثابة سرد تاريخي لما سبق الثورات، ومهد لها، مثل بحث مصطفى أبو القاسم أبو خشيم من ليبيا، والبعض الآخر آثر أن يقدم قراءة للمراحل التي مرت بها الثورة في بلاده، مثل التونسي محمد الحداد الذي اعتبر أن «الثورة التونسية لم تبدأ مع البوعزيزي حين أحرق نفسه، ولكن بدأت بوادرها منذ عام 2008 بالمنطقة المعروفة بالحوض المنجمي، بسبب فقرها الشديد على الرغم مما تزخر به من ثروات منجمية، وأن الاضطرابات امتدت من هناك تدريجيا إلى المناطق الداخلية أي ولايات قفصة، سيدي بوزيد، القصرين وسليانة، ولم تبلغ المدن الساحلية إلا في نهاية المطاف فحلت في صفاقس في الشهر الأخير من 2010». جاءت النقاشات متشائمة في كثير من الأحيان، فيها من النقد والتشكي أكثر مما فيها من الاقتراحات البناءة والتطلعات المستقبلية برؤية ممنهجة. وهو ما أثار على ما يبدو حفيظة كبير مستشاري الرئيس التركي، أرشاد هرموزلو، المدعو لحضور الندوة. وفي الجلسة الختامية حين أعطي له الكلام أشاد بالإنجازات التركية وبما توليه تركيا من اهتمام عال بالتعليم، وبالاستثمار في الإنسان. ذكّر هرموزلو بأن تركيا لا تكتفي ب10 ملايين سائح في السنة وتعمل جاهدة على رفع الرقم. وقال: «من حسن حظنا أننا لا نملك موارد طبيعية كالبترول والغاز، ومن حسن حظنا أنه فرض علينا حظر أسلحة، مما جعلنا نصنع ونصدر للدول المحيطة بنا أسلحة دفاعية». وقال المستشار: «ليس هناك بلد غني وبلد فقير. نحن ارتكبنا أخطاء في تاريخنا، ونعترف بهذه الأخطاء. لكن الآن وحين تسوء الأمور نقومها بصناديق الاقتراع». وبدا هرموزلو مستاء من اللهجة التشاؤمية التي تعامل بها المثقفون العرب مع معضلاتهم خلال الجلسات، فقال لهم: «لا تستهينوا بالعقول العربية. تقولون: فلان حرّكه الأميركيون، والحركات الإسلامية دعمتها الجهة الفلانية. هناك استهانة بالعقول؛ لماذا تفتدون فلانا وفلانا، ونسمع عبارات مثل نموت ويحيا الوطن، لمن سيحيا الوطن؟». هذه المداخلة التي جاءت في الجلسة الختامية أثارت على المستشار موجة من الغضب أثناء المناقشات، لم يتوانَ الحاضرون عن مهاجمة الدور التركي في المنطقة والتشكيك بنية الأتراك، بعد أن كانت الجلسات قد شهدت هجوما مشابها على الدور الأميركي، ومثله (بل أكثر منه) على إيران. ولم يتمكن المثقفون العرب من الرد بعقلانية على هرموزلو، ليظهر، في النهاية، أن غالبية المواقف صبت في التشكيك بكل التدخلات الخارجية من دون استثناء، دون أن يجيب الحاضرون على سؤال بدا بديهيا وهو ما العمل لجعل الدور الداخلي هو الغالب والفاعل مادامت الأطماع الخارجية كبيرة ومستشرسة إلى هذا الحد؟