أكتب عنه بعد أن مضت «الأربعون» على رحيله، وأتذكر بهذه المناسبة أن البرلمان المصرى قد انعقد ذات يوم خارج مقرّه الرسمى، وكان ذلك الانعقاد فى «دار الشريعى»، هكذا تقول كتب التاريخ السياسى لمصر المعاصرة، فعائلة «الشريعى» معروفة بعراقة الأصل وشيوع النفوذ ونفاذ الكلمة، وإليها ينتمى ذلك الفنان الراحل الذى عاش حياة متألقة وصاخبة، متوهجة ومؤثرة، فكان بحق عبقرى اللحن وموسيقار جيل، غاص فى بحر النغم، لم يمنعه فقد البصر من ضياء البصيرة، بل أضاف ذلك إليه عمق الرؤية وتألق الموهبة وثراء الموسيقى، ولقد تمتع بيت «الشريعى» بنفوذ سياسى ودور وطنى، خصوصاً فى العصر الملكى إلى أن زاحمهم المكانة فى مركز «سمالوط» بمحافظة المنيا «بيت عامر» بعد 23 يوليو1952 حتى ظهر الآن بيت جديد ينتمى إلى عائلة «قسطور» التى أصبح نفوذها المالى والتجارى فاعلاً فى تلك البقعة من صعيد «مصر» العريق، فالعائلات فى الصعيد هى الركن الأساس فى التشكيلة السياسية لكل منطقة، ولذلك جاءت المواد الانتقالية من الدستور الجديد مستفزة، مثل مادة «العزل السياسى» لأعضاء البرلمان من الحزب الوطنى، فهى تستعدى العائلات القديمة فى الريف المصرى ضد مرشحى التيار الإسلامى مستقبلاً، ولم يكن من الحكمة أبداً ذلك التعميم الأعمى الذى يقسم المجتمع ويستهدف شخصيات بذاتها على نحو غير مسبوق فى دساتير الأمم والشعوب. وتربطنى بالفنان الراحل صلاتٌ متعددة ربما كان أولاها أن شقيقه الأكبر السفير اللامع «محمد الشريعى» زميل فى السلك الدبلوماسى المصرى خلال العقود الأربعة الأخيرة، وهو الذى يحافظ على لهجته الصعيدية حتى عندما يتحدث فى عواصم العالم المختلفة، احتفاء بالتقاليد واحتراماً لتاريخ العائلة، وقد جمعتنى بالفنان الراحل صداقة ممتدة وشاركته برامج عدة أتذكر أن أحدها كان عن كوكب الشرق «أم كلثوم»، حيث كان هو يعالج الجانب الفنى، وكنت أنا أتحدث عن تاريخها الوطنى وعلاقاتها السياسية بكبار القوم فى عصرها، خصوصاً محمود فهمى النقراشى باشا الذى كان رئيس وزراء مصر فى أربعينيات القرن الماضى، كما شاركت معه فى حلقة أخرى عن شيخ قراء القرآن الكريم «مصطفى إسماعيل» الذى كان يرتّل الآيات بمقاماتٍ مختلفة، متأثراً بالمدارس الفنية التى تساعد على الفهم الدقيق لمعانى الذكر الحكيم، وقد تواصلت بينى وبين ذلك العبقرى الساخر صلات ممتدة فى حوارات سياسية وصلات اجتماعية، حيث كانت ابنتى الكبرى زميلة عمل لقرينته الفاضلة، ومازلت أتذكر مداعبات ونوادر ذلك الإنسان الذى حطّم قيود الإعاقة ولحق بركب العظماء بدءاً من «أبى العلاء المعرى» مروراً بعميد الأدب العربى «د.طه حسين» وصولاً إلى الشيخ «سيد مكاوى» حتى أدمى رحيله القلوب، وهز المشاعر، خصوصاً أنه شارك بحيويةٍ وحماسٍ فى ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، كما خاض معارك سياسية عبر الحوارات «التليفزيونية» مدافعاً عن وجهة نظره، رغم ظروفه الصحية المتدهورة وداء القلب الذى كان يعوق انطلاقته أحياناً .. رحم الله «عمار الشريعى» صديقاً وفناناً، أنيساً ومبدعًا، مصرياً حتى النخاع إلى أن لقى وجه ربه الذى له الخلود وحده.