ثمة ربيع هادئ في السعودية بدأ يزعزع بنية الدولة فيها، وهو يمحو ما تبقى من صور نمطية عن سكان هذا البلد، كما أزال حقائق مفزعة عن الثراء والفقر، فهناك ثلاثة ملايين سعودي تحت خط الفقر ومليونا عاطل عن العمل، ومداخيل الدولة من النفط تترافق مع زيادة عدد الفقراء ومعدلات البطالة في عملية حسابية سريعة: جلي الآن أن السعودية في ربيع ولكنه هادئ وتدريجي.. وهدأ الكلام عن مواقيت. فقد بات الوقاّتون ينظرون الى ما يجري في هذا البلد العصي على الثورة الشعبية، وهو يتحرر من قيوده الأمنية والأيديولوجية، ويرسم بملء توقه للحرية مشهداً سيكون بالقطع فريداً، على الأقل حتى أمد قريب، لأن ما يتحوّل الآن في الوعي وفي الميدان لا يكتسب عنفوانه وحيويته من عوامل تحريض خارجية: التأييد الأميركي أو الأوروبي، والتغطية المتواصلة لقناة «الجزيرة»، الغائبة تماماً عن ربيع السعودية، وربيعات خليجية أخرى، البحرين مثالاً. ربيع السعودية، ذاتي بامتياز، ومحلي النشأة والبقاء، وهذا مصدر أصالته، وبالرغم من محاولات العبث به عبر تسعير الخطاب الطائفي، والتوجيهات الغرائزية المحمومة لتقطيع أوصال الحراك الشعبي المتنقل في أجزاء متفرقة على رقعة المملكة السعودية، إلا أن الناس، وإن وجدت نفسها خاضعة تحت تأثير محرضات كهذه، في كثير من الحالات، ما تلبث أن تتجاوزها وتعود الى نقطة الاشتراك الجوهرية، وهي الإصلاح السياسي الشامل. لا كلام اليوم عمّا إذا كان الربيع قد وصل الى السعودية أم لا يزال على تخومها، فقد دخلت مفردة «الربيع» بمعناها الثوري والسياسي في الخطاب الرسمي وفي الثقافة الشعبية، على حد سواء. أمراء، يحسبهم الجاهل ليبراليين وديموقراطيين، لفرط رطانتهم المدقعة، مثل خالد الفيصل، أمير مكة، وشقيقه تركي الفيصل، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العامة والسفير السابق في لندن وواشنطن، وسعود بن فهد، نائب رئيس الاستخبارات السعودية سابقاً، أقدموا على إعادة توجيه مفردة «الربيع» بما يخدم فلسفة الحكم السعودي، ولكن بفظاظة. الأول زعم بأن ربيع السعودية سبق ربيع العرب ب82 عاماً، في إشارة الى قيام الدولة السعودية العام 1932، والثاني قال إن نظام البيعة لا يختلف كثيراً عن نظام الانتخابات، وذلك في سياق كلمته في مؤتمر في جامعة كامبريدج حول الربيع العربي، أما الثالث فاعتبر تطبيق الشريعة حصناً حصيناً للسعودية أمام «الربيع». مهما يكن، ليست هذه النعوت تعكس مهارة ذهنية استثنائية، بقدر ما تعكس محاولات عنيدة، وربما بلهاء، لجهة تجاوز واقع بات اليوم حاضراً بسطوة في الثقافة العامة. في الصحف المحلية، ولا يزال هناك داع حتى الآن للإشارة الى أنها غير حرة، باتت مفردة «الربيع» الأكثر شيوعاً في مقالات الرأي، رغم التدابير الاحترازية التي يتبعها بعض الكتّاب من أجل تمرير «رأي آخر» في سياق حفلات التمجيد المتواصلة، خصوصاً هذه الأيام بمجلس الشورى الجديد المعيّن، للتذكيرفحسب. [[[ يتحدث كتّاب إصلاحيون عن «الربيع العربي» كما لو أنه حتمية تاريخية، ولا مناص من الاستجابة لشروطه، لأنه يعيد تصحيح الخلل البنيوي في العلاقة بين السلطة والمجتمع، التي نشأت في ظل الكيانات الجيوسياسية بعد الحرب العالمية الأولى، بحسب خالد الدخيل (ماذا ينتظر المملكة بعد «الربيع»؟) (الحياة، 23 كانون الأول الماضي)، فيما يسهب عبدالله الفوزان، عبر طائفة مقالات في صحيفة «الشرق» الصادرة في الدمام بالمنطقة الشرقية، في مقاربة أشد العناوين حساسية، بما فيها العلاقة بين الأسرة المالكة والشعب، وأهلية الشعب للمشاركة السياسية. وبغض النظر عن بساطة الإجابات، وسطحيتها أحياناً، إلا أن ما يعنيه طرح هذه المسائل في الصحافة المحلية وفي هذا الوقت بالذات، أن الربيع بات داخل الدار وليس على الأبواب. حتى على المستوى الديني الرسمي كان ل«الربيع» تمثيله، فلم يبرح المفتي العام للمملكة، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ يذكّر المواطنين بألوان العقاب في الدنيا والآخرة من عواقب الثورة، وقد كان متصالحاً مع وعيه العقدي، الذي يرى في الثورات العربية «فتناً»، سببها، حسب قوله في خطبة في 4 أيار 2012، (ذنوب العباد ومعاصيهم)، فهو يتماهى مع الجبلّة الموروثة المؤسسة على أن الخروج على الحاكم، ما لم يصل الى حد «الكفر البواح»، مفسدة كبرى، ومؤخراً بات حتى شرط «الكفر البواح» مبتذلاً، أي خاضعاً للزحزحة، لأن مفسدة الخروج أعظم من صلاح تغيير الحكّام، فتم تصعيد دلالة «ما لم يغيّروا شيئاً من قواعد الإسلام»، كما جاء في شرح النووي على كتاب مسلم. لم يكن مجرد توجيه ديني روتيني طباعة 1,5 مليون نسخة من فتوى تحريم التظاهر الصادرة عن هيئة كبار العلماء، وهي أعلى هيئة دينية في السعودية، قبل 11 آذار 2011، وهو اليوم المقرر لبدء الربيع العربي في السعودية..في المقلب الآخر، صدرت كتابات من مشايخ الصحوة، كما يعرّفهم خصومهم، مثل الشيخ سلمان العودة، والشيخ سفر الحوالي والشيخ عوض القرني وآخرين، تناصر الربيع العربي وتعتنق الانتقال الديموقراطي الذي كانت تعارضه من منظور أيديولوجي. لأولئك الذين أحجمت كاميرات القنوات الخليجية المعولمة، وحتى الأوروبية، عن نقل مشاهد الاحتجاجات والاعتصامات إليهم، نلفت الى أن ثمة ربيعاً هادئاً ولكنه يزعزع عميقاً بنى الدولة السعودية، وهو يمحو الآن ما تبقى من صور نمطية عن سكّان هذا البلد، تماماً كما أزالت حقائق مفزعة صورة نمطية راسخة عن ثرائهم، فهناك 3 ملايين نسمة تحت خط الفقر، وهناك مليونا عاطل عن العمل، بحسب وزير العمل عادل فقيه (الشرق، 18 كانون الأول 2012). وعلى الضد من قوانين العلم والمنطق، فإن زيادة مداخيل الدولة من النفط تترافق مع زيادة في عدد الفقراء وارتفاع في معدلات البطالة. الابتهاج المأمول بالميزانية الجديدة (260 مليار دولار) للعام 2013، ما لبث أن خمد سريعاً، ببساطة لأن الفوائض المتراكمة منذ العام 2003 2013 التي بلغت 2155 مليار ريال، أي ما يعادل 575 مليار دولار أميركي، لم تعكس أثراً إيجابياً في أحوال الناس. [[[ كل السخط المتراكم منذ عقود، لم تستوعبه الامبراطورية الاعلامية السعودية، ولكنّه عثر في مواقع الاتصال الاجتماعي على متنفّس عام، وميدان تحرير افتراضي يلتقي فيه طلاّب الحرية، من كل الأعمار، والمكوّنات السكانية، والانتماءات السياسية والعقدية.. إنه فضاء لا هوية له سوى ما ينفثه المصدورون في 140 حرفاً، يصل الى الاتباع ومنهم الى آخرين، كمن يرمي حجراً في ماء ثم تنطلق موجات دائرية تكبر تدريجاً.. بحسب موقع «سويشيل كلينيك» للإستشارات الاعلامية ومقرّه في جدة، أن هناك 3 ملايين مستخدم سعودي نشط على موقع «تويتر»، وهناك ضعف هذا الرقم على موقع «فايسبوك»، وأن نسبة مشاركة السعوديين في تويتر تضاعفت 3000 في المئة من العام 2011 حتى نهاية العام 2012، بواقع 50 مليون تغريدة شهرياً. تدور في العالم الافتراضي رحى معارك محمومة بين المجتمع والنظام السعودي، وقد انتقل قسم منها الى الواقع.. تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي الى ما يشبه مراكز تأهيل وإحماء أولية للناشطين الذين ما يلبثوا أن ينخرطوا في أفعال احتجاجية على الأرض.. من يراقب ما يجري في السعودية الآن، يدرك أن ما يتشكّل في العالم الافتراضي هو صورة الواقع قبل دخوله حيز التنفيذ.. ولن يطول الزمن حتى يجد النظام السعودي نفسه أمام حقيقة أفوله النهائي، بعد عزلته التامة. قبل أيام من إعلان الملك عن تشكيلة مجلس الشورى الجديد، أطلق مغرّدون سعوديون حملة، أو ما بات يعرف تويترياً «بهاشتاق» بعنوان مجلس شورى منتخب، ونجح خلال ساعات قليلة في استقطاب أكثر من 16 ألف ناشط، فيما بلغ عدد التغريدات ما يربو عن 60 ألف تغريدة، شارك فيها رجال دين وناشطون وحقوقيون، وأجمع كلهم تقريباً على أن المدخل لبناء الدولة الحديثة هو مجلس شورى منتخب يمثّل كل مكوّنات الشعب. وفي رد فوري على إعلان الملك في 11 كانون الثاني الجاري عن مجلس الشورى الجديد المعيّن بأعضائه المئة والخمسين، من بينهم 30 إمرأة، أجري استفتاء على «تويتر» حول المجلس، وكان السؤال: هل ترى أن مجلس الشورى الجديد يمثلك كمواطن؟ شارك فيه أكثر من 18 ألف مواطن، وجاءت النتيجة على النحو التالي: 93 في المئة قال: لا، لا يمثلني، فيما قال 4 في المئة نعم يمثلني، وقال 3 في المئة ليس لي رأي محدد. سباق العائلة المالكة مع الزمن عبر حملة إعفاءات وتعيينات في عملية تقسيم كعكة السلطة بين الأجنحة الرئيسية، ونقل إرث العرش الى الجيل الثالث يُستقبل اليوم بازدراء من غالبية المواطنين، لما ينطوي عليه من تجاهل مقصود لمطالبهم، بل إن التعيينات الجديدة وخصوصاً إمارات المناطق، تشي بمزيد من التشدّد والقبضة الحديدية لمواجهة استحقاقات المرحلة القادمة.. هناك إجماع شعبي اليوم على أن مؤسسات الدولة لم تعد ذات جدوى، وأن ترهلها، وفسادها، يعودان الى أن الجهاز البيروقراطي نضب تماماً، ولم يعد قادراً على العطاء، وأن النخبة الحاكمة باتت تعكس انحطاط الدولة وتفسّخها.. والحل، كما يراه الإصلاحيون من مشارب شتى، هو في دولة مدنية حديثة، قائمة على دستور واضح وفاعل، وبرلمان منتخب يضطلع بدور تشريعي كامل الصلاحية، وأجهزة رقابية تمنع هدر المال العام والفساد المالي والاداري، وصحافة حرة، ومؤسسات أهلية تكون حاضنة للعملية الديموقراطية.. لا، ليست هذه مجرد تمنيّات، بل هي قائمة المطالب المرفوعة في العالم الافتراضي.. والواقعي أيضاً.