من مصر إلى بلاد الطاهر الحداد، محاكمات وبلاغات واعتداءات. فبينما شُغل الشارع بفصل جديد من محاكمة مدير قناة «التونسية» سامي الفهري، صُدم باقتحام «مقرّ الخلدونية» الذي يعدّ حضن التنوير والتحديث قرّرت الدائرة الجنائية في محكمة الاستئناف في العاصمة التونسية، أول من أمس، رفض طلب محامي مدير قناة «التونسية» سامي الفهري الإفراج عنه، وقضت بإيداع خمسة مديرين سابقين لمؤسسة التلفزة التونسية السجن كشركاء في قضية الفساد المالي المتّهم بها الفهري. هذا القرار فاجأ الوسط الإعلامي والحقوقي الذي أجمع على أنّ سجن الفهري باطل قانوناً، بعدما قضت محكمة التعقيب بالإفراج عنه. ويبدو أنّ الضغط الذي مارسته الحركة الديمقراطية والوقفات الاحتجاجية والإضراب عن الطعام الذي نفذه الفهري وكاد يودي بحياته، عوامل أدّت إلى نتيجة عكسية! إذ قضت المحكمة أيضاً بسجن خمسة مديرين سابقين بنفس تهمة الفهري وهم: محمد الفهري الشلبي، والمنصف قوجة، والهادي بن نصر وإبراهيم الفريضي ومصطفى الخماري. وفي أول ردّ فعل، أصدر أربعة مديرين من بين الخمسة المتّهمين بياناً نفوا فيه أن يكونوا قد حصلوا على أي استفادة مباشرة أو غير مباشرة، والدليل أنّهم أقيلوا بسرعة ولم يتجاوز أفضلهم 16 شهراً. وأكدوا أنّهم اجتهدوا في تطبيق القانون وتنفيذ التعليمات المفروضة عليهم. يذكر أنّ الفهري متّهم بنهب المال العام على خلفية البرامج التي كان ينتجها في شركته «كاكتوس» وتبثّها التلفزة الوطنية، وهي التهمة نفسها الموجهة إلى الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وصهره بلحسن الطرابلسي، ووزيره القوي عبد الوهاب عبدالله، السجين منذ حوالى عامين. ويرى مراقبون أنّ إيداع المديرين العامين السجن يندرج ضمن إقناع الرأي العام بعدالة سجن الفهري باعتباره شريكاً، والمديرين فاعلين أصليين. ويتوقع أن تشهد تونس مزيداً من الجدل بين الحكومة ومعارضيها بسبب هذا الملف الذي تعتبره الحكومة قضائياً يندرج ضمن مكافحة الفساد، فيما ترى المعارضة وقوى المجتمع المدني أنّه لا يتعدّى تصفية حسابات مع خصم سياسي ومحاولة لتركيع الإعلام، خصوصاً أنّ قناة «التونسية» هي الأكثر مشاهدة في تونس. هذا الفصل الجديد من محاكمة الفهري تزامن مع محاكمة عميد «كلية الآداب والفنون والإنسانيات» حبيب القزدغلي المتّهم بصفع طالبة منقّبة. وقد شهد بهو «المحكمة الابتدائية» في ولاية منوبة، أول من أمس، حضوراً لافتاً للقوى الديمقراطية والحقوقيين الذين اعتبروا محاكمة القزدغلي محاكمة رأي واستهدافاً لحرمة الجامعة والقيم الأكاديمية. وفي سياق متصل، اقتحم حسين العبيدي، إمام «جامع الزيتونة» الذي سبق له تكفير فنّاني «معرض العبدلية» (الأخبار 23/6/2012)، مع مجموعة من 50 شخصاً، «مقرّ الخلدونية» في مدينة تونس العتيقة وغيّروا أقفاله وطردوا من فيه، وألقوا برئيس «جمعية التراث الفكري التونسي» فتحي القاسمي في الشارع بعد جرّه أرضاً! وتمثّل «الخلدونية» أبرز نقاط الضوء في الحركة الإصلاحية التونسية. تأسّست في القرن التاسع عشر، ومن أبرز أعلامها سالم بوحاجب، والطاهر بن عاشور، والفاضل بن عاشور، والطاهر الحداد، وأبو القاسم الشابي، وحسن حسني عبد الوهاب وغيرهم من رموز التنوير التونسي. ويعتبر هذا الاعتداء الذي تعرضت له «الخلدونية» اعتداءً على رمزيتها وعلى ما تعنيه من تنوير وتحديث، مشكلاً حلقةً جديدةً من حلقات استهداف الروح التونسية المستنيرة في معركة مع فكر الظلام والعتمة الذي اتسعت دائرته.