بعد نهاية حدثٍ ما أو عند بداية تشكُّل صورته، تتكوّن لدى المثقف الملامح الكافية لرسم صورة صحيحة إلى حدّ ما. فالربيع العربي الذي تجلّت نسائمه الأولى في المغرب، قبل أن تختفي فجأة وكأنّ شيئاً لم يكن، يدفعنا اليوم، وبعد مرور نحو سنتين على هذه الثورات، إلى التساؤل عن موقع المغرب في الربيع العربي، وعمّا إذا مرّ الربيع أصلاً في فضاء المغرب، أم أنّه كان مجرّد سحابة عابرة؟ هل انتبه المثقفون والمفكرون المغاربة إليه أم أنّه مرّ من دون أن يلفت انتباه أحد؟ وما الذي تغيّر في المغرب بعد كلّ التحولات التي شهدتها الدول المجاورة؟ هذه الأسئلة التي تفرض نفسها طرحتها «الحياة» على بعض الشخصيات الثقافية، ولا سيّما الشباب منهم لقربهم من الشارع واهتمامهم بمسألة الثورات التي حرّكها شباب في مثل سنّهم. أما الأجوبة فجاءت شبه متقاربة. القاصّ عمر علوي ناسنا يعتبر أنّ الثقافة - نظرياً- تحصّن الثورة ضدّ نفسها وتحميها من أن تتحول إلى سلوك «القطة التي تأكل أبناءها». ولكنّه لم يُخفِ خيبة أمله باعتبار «تغييب المثقف والثقافة عن دفة الثورة وترك الزمام بيد البراغماتية السياسية والتسلّق الحزبي وتصفية الحسابات المأزومة، وهو ما أفرغ الحراك المغربي من معناه. ولأنه حراك بلا أسئلة، فإنّه لم يحسم شيئاً، لا نوع الدولة التي يريدها ولا نوع المواطن الذي يريده ولا حتى شكل الانتصار الذي يُخطّط له سواء لقيم الفرد أم لقيم الجماعة، مديح الماضي أم المرافعة لكسب ودّ المستقبل». ويضيف علوي: «كأن الثقافة المغربية الأصيلة نبتت في الأحراش، فوجد المثقف المغربي نفسه، ولمدّة طويلة، أنّه يعيش وجوداً ضديّاً مفروضاً، كأنه وجود «جبهوي» في مواجهة مجتمعه وقيمه وفي مواجهة المؤسسة الرسمية التي احتكرت المعنى وتحكمت في رقاب ومسارات تداوله». دور المثقف المغربي وفي ما يخصّ دور المثقف، يعتبر علوي «أنّ المثقف المغربي لم يتحكم في توجيه دفة الحراك نظراً إلى دوره المُهمّش، وأمسك بالدفة كل الذين أفلحوا في ركوب السفينة ولو متأخرين، لكنّ هذه السفينة نفسها أقلّت على متنها تشكيلات متضاربة لا يحبكها خيط الاختلاف الإيجابي، هذه الحقيقة حقيقة المكونات غير المنسجمة للخلطة استفاد منها المخزن أي الدولة بصورتها التقليدية واستفادت منها أحزاب وتشكيلات عرفت كيف تناور، وفيما كان الحراك يتقدم كانت هناك أيد خفية تتحكم في مساراته بطريقة ملتوية وماكرة». الشاعر عبدالرحيم الخصّار تساءل عن خفوت صوت الشارع مباشرة، قائلاً :»هل كان الربيع العربي مجرد خدعة؟». وقد اختار صفة «ربيع أسود»، وهي مستوحاة من عنوان إحدى روايات هنري ميللر. ويشرح الخصّار موقفه بالقول: «أنا عبّرتُ عمّا أحسّ به فقط. وعلى رغم كل هذه الأحداث وكلّ هذا الدم وهذا العدد من الضحايا، شعرت كما لو أننا خُدعنا. وأنا غالباً ما أقول لأصدقائي إنّ الربيع العربي لا يعني الإطاحة برئيس دولة وتولّي رئيس آخر». ويضيف الخصّار: «أنا مع التغيير، ومع التحول نحو القيم الإنسانية الكبرى حيث العدالة و المساواة ورفع القهر عن المواطن. وأنا مع الحرية، حرية الرأي أولاً والعيش بكرامة، والمغرب لا يشكل استثناء على الإطلاق رغم ما يدّعيه الكثيرون ممّن يطبّلون ويهرّجون للسلفية السياسية في المغرب. بلادنا تحتاج الى الكثير على مستوى الاقتصاد والحياة الاجتماعية والحريات العامة، الأمر الذي قد يتطلّب في نظري زمناً ربما سيطول. ومع هذا، لا أتمنى للمغرب تكرار التجارب التي عاشتها البلدان العربية الأخرى. فالتغيير يحتاج إلى النظر للأمور بعمق وبجدية، وليس للحماسة فقط. ربما هو الربيع فعلاً. لكنه على ما يبدو لي ربيع أسود». الشاعر محمد العناز يعتقد أنّ ما شهده العالم العربي من حراك «جعل المثقف المغربي يقف مبهوراً، ذلك أنه لم يستوعب جيداً ما يجري. فأدوات التحليل التي يمتلكها المثقف لم تعد صالحة لتحليل الواقع الاجتماعي وتجاذباته السياسية والنفسية». ويرى العناز أنّ «المثقف تخلّى عن أدواره التاريخية - أتحدث عن المثقف العضوي - ليجد نفسه في مجتمع لا يعترف بوضعيته الاعتبارية. تحوّل المثقف إلى مجرد أداة للاستهلاك، ومُروّج رديء لإيديولوجيا الحزب والسلطة. ولكن ينبغي هنا استثناء قلّة من المثقفين الشرفاء، وهذا ما يفسر لنا عجز عدد من الأطر الأكاديمية بخاصة المشتغلة بمجال الفكر والسوسيولوجيا عن تقديم قراءات رصينة لهذا الحراك». واعتبر الشاعر العناز أنّ «الثقافة اليوم تحتاج من الربيع العربي الجرأة والإرادة على قول كلمة «لا». وتحتاج أيضاً إلى الحلم بغد مشرق لهذا البلد التي يستحق كلّ ما هو أجمل.» ويعقِدُ العناز مقارنة بين الربيع العربي وربيع براغ فيقول: «حينما أستعيد ربيع براغ (1968) بكل خلفياته الفلسفية والسياسية والثقافية، وأحاول مقارنته بما يسمى «الربيع العربي» الذي جاء بالتيارات الإسلامية المتشددة إلى السلطة ليتم ترويضها داخل طاحونة الدولة، أجد أن المقارنة صعبة... شعب يصيح في وجه الصدود، وسياسيون يتلهون بفتائل الغاز قرب النار. ومواجهة المطالب الشعبية بالتجاهل والتماطل والقمع مؤشر خطير على أننا لم نخرج من الأزمة التي تعود إلى تحرير الكلمة واللقمة معاً». أمّا القاص المغربي عبدالمنعم الشنتوف فلا يعتقد بفاعلية هذا الربيع الذي لم يستطع «أن يتحوّل إلى موضوع للكتابة والتفكير». وينتقد الشنتوف دور المثقف المغربي الذي «يبدو وكأنه غير معني إطلاقاً بهذه التحولات التراجيدية، لكونه محكوماً بحسابات وأسئلة أخرى لا علاقة لها بما يجري في البلد. أضف إلى أنّ غاية مرام الغالبية تتمثل في الحصول على أكبر نسبة من الامتيازات والحظوة في مراكز القرار الثقافي المنخورة بالفساد وعقلية الريع». وعن توقّعاته في شأن مستقبل هذا الربيع يقول عبدالمنعم: «ننتظر من الربيع العربي عموماً والمغربي خصوصاً أن يغير العقلية البالية التي لا تفتأ تحكم الأوصياء على المشهد الثقافي في المغرب». وتمنّى في اختتام حديثه «أن يساهم الربيع المغربي في الارتقاء بأهمية الفعل الثقافي وتحويله إلى عنصر أساسي ودينامي في الارتقاء بقيمة المواطنة. وما نحتاجه اليوم قبل كلّ شيء، وبشكل ملحّ، هو ثورة ثقافية وثورة قيم. ومن مصائب هذه الحركات أنّها تناقش أسئلة من نوع من سيحكم ومن سيتولى ومن أفضل ممّن، وتحصر النقاش في مطالب سياسية وفي أفضل الأحوال اجتماعية واقتصادية ضيقة. لا ثورة بلا تنوير حقيقي للعقليات العربية، ولا تنوير للعقليات العربية من دون إعادة الاعتبار للثقافة والبحث العلمي وإعادة النظر في تصوّرنا للمواطن. وإن لم تستثمر الحكومات الجديدة في تنمية الإنسان، فالسلام على كلّ ثورة....»