لأن مصر ثقل عربي، أثرت وما زالت في مسيرة العرب، ولأن «الإخوان» أصبح لهم القول الأعلى في مسيرة مصر، أو سوف يكون ذلك، فإن ما يحدث فيها أكثر أهمية مما يحدث في غيرها. تونس أصبح لها رافعة إخوانية، والسودان حكمه الإخوان لفترة تزيد عن ربع قرن، إلا أنه لا تونس ولا السودان يستطيع أن يترك أثرا في صيرورة التاريخ العربي، كما تفعل مصر. تلك حقائق لا يجادل فيها مطلع على أحداث التاريخ. ولأننا في هذه الأشهر والسنوات في داخل الصورة متفاعلين معها، فإن تعليقاتنا، أو أكثرها، تميل إلى الآنية، وتناول العاجل من أمور السياسة وربما بشيء من العاطفة وقليل من التبصر، ولا أستثني نفسي. إلا أن الأمر أخطر وأعمق، قرأت عن مسيرة «الإخوان» في مصر، بل وكنت أقرأ مجلتهم التي كانت تصدر في خمسينات القرن الماضي، وتابعت كثيرا مما كتب عنهم من المقربين المحتفلين بهم، ومن المبعدين المناوئين لهم، من كان في الجماعة وخرج وكتب، ومن كان في الجماعة فبقي ودافع. وقع في يدي كتاب في منتصف عام 2010 شدني عنوانه وكان «في قلب الإخوان»، والكتاب هو لثروت الخرباوي، قرأت الكتاب وقتذاك، كما تعودت أن أتابع تلك الحركة السياسية التي تقدم خلطة «دينية سياسية» تميل إلى الإقناع بالخروج من المأزق الحضاري العربي. وقتها أي 2010 كان كل ما عرف بعد ذلك بالربيع العربي في علم الغيب، لم يكن هناك حتى إشارات للزلزال الذي أتى بعد ذلك وبدأ بأواخر عام 2010 في تونس. الكتاب يسرد قصة رجل آمن بالفكرة ودافع عنها، ثم اختلف أو حمل وجهة نظر في أعمال الجماعة السياسية، وخصوصا النقابية، فترك أو تُرك، لم يكن هو الأول ولن يكون الأخير، فقد سبقه رجال كثيرون منهم من تبوأ أمكنة مرموقة في داخل مصر أو في بلاد عربية كثيرة. ذلك الكتاب قرأته بتحفظ، ورسم صورة في ذهني للكاتب الذي وجدت أنه جرح في الوقت الذي كان مؤمنا ونشطا كأفضل ما يكون «الإخواني المنظم» و«المنضبط». بقيت أفكار من ذلك الكتاب في خاطري، وكان نشره في وقت لم يكن أي من أهل البصيرة قد توقع وصولهم إلى الحكم. بحثت عن الكاتب بعد ذلك، وكان لقاؤنا في الكويت في منزلي الأسبوع الماضي، الذي طال في ما يمكن أن يسمى «مراجعة أفكار»، على أثرها قدم لي الرجل مشكورا كتابه الثاني «سر المعبد»، أيضا حول حركة الإخوان المسلمين في مصر، ولكن هذه المرة التحليل أكثر عمقا من كتاب الجرح «في قلب الإخوان»، كما أنه ينشر والإخوان في السلطة، وإن لم يكن «التمكين» كله قد تم. والتمكين هو مفهوم إخواني قديم لخصته كلمة «وأعدوا» التي تظهر في الشعار الإخواني ومكانها القلب من الشعار، أي الوصول إلى الحكم. لم أكن بقادر على أن أترك الكتاب الثاني وإن قلت إن بعض فقراته تظهر بقية من تحامل قد يكون ثروت قد حملها أو بقيت في حلقه نتيجة مرارة شعر بها، بعد أن أفنى كثيرا من سنوات عمره يسير وراء ذلك الحلم الغامض «الدولة الإسلامية». في هذا الكتاب الكثير من الأخبار والكثير مما شهده ثروت وإخوانه من سلوكيات الجماعة التي تخرج من الدعوة إلى المكيافيلية في أكثرها تشوها وحيرة. ولست هنا قابلا لكل ما جاء في الكتاب، وإن كان كثير منه مقنعا للعقل، وأيضا لست معاديا للجماعة بالمعنى المتعصب والسابق لكل ما يمكن أن يقدموه في المستقبل، فذلك مرهون بالكثير من التطورات. إلا أني أحمل قلقا كبيرا في ما سوف تؤول إليه أمور السياسة في مصر، انطلاقا من كل تلك التراكمات التاريخية، كما يزيد قلقي معرفة - أرجو أن أكون مخطئا فيها - بأن من يقبض على مقدرات مصر يستطيع أن يسكت أصوات منافسيه في نهاية الأمر، إما بالشعارات التي تسقط على العامة والجماهير فيتعلقون بها تعلق المرأة بولدها الوحيد، وإما بسبب نقص تاريخي في استخدام العقل من أجل تمحيص تلك الشعارات. المعادلة التي وصلت إليها البشرية أن لا تقدم للشعوب دون حرية، والحرية هنا بمعناها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. سقطت حكومات ذات شكيمة، بسبب نقص في الحريات، وانهارت إمبراطوريات بذلك السبب، وفشلت تجارب فقط لأنها أسقطت فكرة «الحرية» بمعناها الشامل والحديث من حسابها. وإذا وضعت كل ذلك على خلفية «الإخوان» سوف تجد أن تاريخهم السابق والطويل لم يأبه بالعناية بالحريات، لا في داخل التنظيم نفسه ولا في النظر إلى الأغيار المخالفين. أهمية «سر المعبد» أنه يرسم صورة عدم التسامح بحروف واضحة، وبقصص وممارسات واقعة، بل إن عدم التسامح وصل إلى نفس أعضاء التنظيم، الذي لم يكن للديمقراطية وزن واضح في مسيرته. أغرقنا البعض في الأسبوع الماضي في مسيرة التطور السياسي المصري بالتفاصيل، وهي كثيرة، كما أن الجميع يعرف أن الوضع أكثر تعقيدا مما يبدو في الظاهر، حيث هناك شراهة منقطعة النظير للفوز بالحكم والتفرد به، بل إن كثيرين من دول عربية مختلفة نصروا التصور الإخواني المصري وفتحوا النار على كل من يعارض. وربما أيضا فشلت المعارضة بكل تكويناتها «الوجاهية» و«النخبوية» من الإشارة إلى الأجندة الحقيقية، وهي الحريات. فخاض البعض في التوقيت للاستفتاء على الدستور، وفي تفاصيل الإعلان الدستوري، وفي من يذهب أو لا يذهب إلى الاجتماع التشاوري، ونسي الجميع أن نصوص الدستور المصري المقترح تأكل من فكرة الحريات جانبا كبيرا، وهو لب القضية. تأكل من حقوق الأقليات وحقوق المواطن في إبداء الرأي، وفي أحادية الدولة بدلا من تعدد رؤوسها! تلك هي الحقائق التي لم يكن للتنظيم الإخواني قدر من المناقشة أو الأدبيات التي تؤكد احترامها، بل على العكس، «سر المعبد» وغيره من الكتب والوثائق قد سرد لنا منذ زمن النظرة الإقصائية التي هي طبيعة تنظيم الجماعة، وهي نظرة تسير متعاكسة مع متطلبات الدولة الحديثة، وفوق ذلك متطلبات النهضة المرتجاة للوطن المصري والأوطان الأخرى. آخر الكلام: تاريخ الفقه الإسلامي أثبت دون مواربة أن كبار المجتهدين نسبوا ما اجتهدوا فيه إلى أنفسهم، فذلك اجتهاد الإمام مالك، وهذا الشافعي، وذلك أحمد بن حنبل، وآخر أبو حنيفة النعمان. لم يقُل أحد منهم إن اجتهاده إسلامي، فالإسلام أوسع من الاجتهاد. تواضع الأولون واستكبر المتأخرون، فنسبوا اجتهادهم إلى أنه إسلامي، وهو لا يعدو أن يكون من بشر، يصح فيه الخطأ والصواب، وواجب نقده محتم.