بسبب قتلى رفح المصريين فتح باب النقاش من جديد حول «حكم الإخوان» في مصر، وهي حادثة من بين حوادث أخرى سوف تقع في مصر في القريب بصيغ مختلفة، وتعيد طرح السؤال الذي لم يُجب عليه حتى الآن: ما الفكر الواقعي الذي سوف يقود حكم «الإخوان» في مصر، وربما في أماكن أخرى من عالمنا العربي؟ تحصيل حاصل الحديث عن جهاد «الإخوان» الطويل والتضحيات التي قدمها جيل كامل منهم، بشكل مباشر، من خلال تعليق قادتهم على المشانق أو غياهب السجون، كل ذلك من أجل هدف في رأيهم يفوق كل الأهداف، هو إقامة الدولة الإسلامية.. ولكن ما هو شكل الدولة، وكيف تتعامل مع مشكلات الداخل وقضايا الخارج وتتفاعل مع قضايا العصر؟ الأمر الذي لا يزال يحير عددا كبيرا من «الإخوان» ومن خارج «الإخوان». في التفاصيل، هناك ثلاث حقائق تستحق التوقف عندها؛ الأولى أن «الإخوان» ليسوا لونا واحدا، هناك عدد من المدارس، أهمها مدرستان: إحداها «حداثية»، إن أردنا استخدام تعبير عام لها، والثانية «تقليدية أو محافظة» أيضا بتعبير عام. تعايشت المدرستان إبان الكفاح شبه السري، ولكنه كان تعايشا صعبا سوف يزداد صعوبة في المستقبل، وقد ظهرت الجماعة على السطح السياسي في مصر وفي غيرها من البلدان العربية. الحقيقة الثانية أن أكبر عدد من «الإخوان» هم الإخوان السابقون؛ فقد ترك التنظيم عدد كبير بسبب ضيق مساحة الحرية فيه، بعضهم صار معاديا له، وبعضهم طلب السلامة وانزوى، إلا أن حجم الخارجين - إن صح التعبير - أكبر بكثير ممن هم بداخله. الحقيقة الثالثة هي أن «المتفرج» غير اللاعب، ف«الإخوان» خارج الأنظمة يستطيعون أن ينتقدوها دون تحفظ، ما شاء لهم، مثل النقد الإخواني المصري السابق ل«حصار مبارك للإخوة الفلسطينيين في غزة أو تعامل نظام مبارك مع إسرائيل ضد الإخوة المجاهدين الفلسطينيين» أو نقد «إخوان تونس» لتضييق الحريات عند بن علي. أحداث رفح أجبرت القيادة السياسية الإخوانية على أن تفعل بالضبط في هذا الأمر، وتحت ضغط الصدمة، ما كان متوقعا من نظام مبارك في مثل هذه الأحداث! (أياد تعبث بالوطن وترغب في عرقلة الرئيس)، الدولة هنا لها مقتضياتها، ذلك تفسير لجزء من المشكلة لا توصيف للمشكلة. المشكلة هي فقدان لأجندة دولة حديثة كما تمنى المصريون! قلق البعض من أن «الدولة الإخوانية» تتعلم السياسة بالطريق الشاق. استقبل الرئيس محمد مرسي رؤساء غزة بترحاب شديد؛ إسماعيل هنية، وخالد مشعل ورفاقهما، ووقف الرئيس في حضرة المرشد، وجلس الأخير مع السيد هنية. تلك الصورة أرسلت مجموعة من الرسائل مفادها أن «مصر الإخوانية قررت أن تشن الجهاد لتحرير فلسطين من أوسع الأبواب». قلت أرسلت رسالة وربما لم تكن مقصودة ولا مبيتة، إلا أن من قرأ الصور والإيماءات، وحتى التصريحات، فسرها، كما فسر ملايين من العرب؛ أن وصول «الإخوان» إلى الحكم يعني هدفين؛ الأول إقامة «دولة الخلافة»، والثاني تحرير فلسطين، أو كليهما معا! ما حدث في رفح هو نوع من تلك القراءة، مجرد تسرع، لا خروج عن الفكرة العامة التي أرسلت بطرق مختلفة. قصدت القول إن فكرا اجتهاديا في السياسة، يتواءم مع العصر، حتى الآن لم ينتج في فضاء «الإخوان»، وسوف تظل معنا الإشكالية إلى فترة ليست قصيرة (مرحلة التجربة والخطأ)، في عصر تتسارع فيه الأحداث، وتزداد مطالب الشعوب ويترقب الناس الأفعال لا الأقوال، في عالم اكتشف آليات الحكم الرشيد منذ زمن. الإشكالية الأهم والأعمق أن الوصول إلى ذلك الاجتهاد السياسي الحديث ليس سهلا. لا أحد يختلف كثيرا على المبادئ العامة التي يرفعها «الإخوان»؛ العدل والمساواة ومخافة الله، وهي مبادئ تجلب كثيرا من الأنصار، وقادرة على الحشد، خاصة في فضاء عربي متشوق لرؤية تلك المبادئ السامية محققة على الأرض. إلا أن الخطير هو أنه ليس بالمبادئ وحدها تتحقق أحلام الشعوب في الحرية والعدالة، وليس بالنيات وحدها أيضا، المطلوب تطوير الآليات. عدت أبحث عن «السياسة» في فكر «الإخوان»، وراجعت بتمعن وثيقتين، أرى أنهما من الوثائق المهمة التي كونت فكر «الإخوان» السياسي في مرحلة التأصيل، ومن المفروض أن نجد بعض الحلول السياسية فيهما. الأولى هي كتاب أبو الحسن الندوي الموسوم ب«ماذا خسر العالم من انحطاط المسلمين؟»، وهو أحد مفكري الهند المسلمين، اللذين أثرا في الفكر السياسي الإخواني، طبعا الثاني هو أبو الأعلى المودودي (المتوفى في نيويورك 1979)، الأول ربما الأكثر تأثيرا من الثاني في تثبيت المفاهيم الجهادية، والكتاب الثاني لأحد رجال «الإخوان»، له مكانه عالية في تاريخهم، هو المرحوم عبد القادر عودة في كتابه «الإسلام وأوضاعنا السياسية». عليّ أن أقول إنني راجعت الكتابين من قبيل البحث بعقل مفتوح عن التفكير السياسي. الندوي ألف كتب المقدمة لكتابه المرحوم سيد قطب، وأيضا أحمد الشرباصي (وقتها مدرس بالأزهر)، الأخير قال: «الندوي يكره التصوير بجميع أنواعه، ويحرمه على نفسه بتشدد ملحوظ، وقد زرت معه إحدى دور النشر في القاهرة، ورغب مصور الدار في أن يلتقط لنا صورة تذكارية، فرفض أبو الحسن، وأصر على الرفض»، ذلك جزء من منظور أبو الحسن للحياة. إلا أن متن الكتاب هو نفسه تقريبا فكرة كتاب عبد القادر عودة «عدم فهم المسلمين المحدثين للإسلام»، يطل فيها على تاريخ الحضارات، ثم يتحدث عن مبادئ الإسلام (التي لا يختلف عليها أحد). اللافت أن الندوي يختار نصا لمحمد إقبال يقول: «ليس من الخير أن تستشير عقلك..»! التشدد هو الذي جعل الندوي يقدم مفاهيم اتبعها بعد ذلك كثير من المتشددين، منها «المجتمع الجاهلي» و«الوثنية المتطرفة» وشجبه ل«تحرر السياسة من رقابة الدين، فأصبحت قيصرية أو كسروية». يظهر أنه لم يقرأ ابن خلدون الذي قال: ما أفسد السياسة إلا ربطها بالدين! لعل المتابع يجد بعضا من التفسير للتشدد الندوي، كونه عاش في صراع استقلال الهند بين الهندوسية والإسلام. أما عبد القادر عودة فيرجى من عنوان كتابه أن تكون هناك خطوط عريضة «عن الأوضاع السياسية»، لكنه يفاجأ القارئ بأن الكتاب وعظي، ركز على أهمية «توزيع الثروة»، لأن الكون مسخر للإنسان (وتلك حقيقة)، فالمستخلف (الإنسان) عليه واجبات دينية من جهة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة أخرى، و«الحكومة الإسلامية تأخذ من الأغنياء وترد إلى الفقراء». أما الجمهور العام في نظره فقد ظلوا كما قال، حيث «زينت لهم الديمقراطية والاشتراكية، والمسلمون لا عاصم لهم من الاستعمار والشيوعية غير الإسلام»، واضح الخلط في المفاهيم. تبحث عن آليات الحكم وشكلها، وتصور لبناء المؤسسات، وطريقة توسيع الحريات، التي ثبت إنسانيا أن لا تقدم دونها، فلا تجدها، يعوض عنها بقدرة كبيرة على الحشد من خلال تفسير النصوص، دون تصور لتنمية شاملة. أما إذا كان الكلام عن «النيابة»، فهي نيابة عن الله لا عن الناس، تستطيع أن تنتهي بأن التفكير الأهم في الحكم هو حكم الجباية والهداية، لا حكم الحرية والتنمية. أمام هذا النقص الذي تزيده العصبية التنظيمية قصور يظهر فقر التفكير السياسي وقصور الممارسة، على عكس ما وجد الجمهور العربي في التجربة التركية، كل ما لدينا يتراوح حتى الآن بين فقرين؛ تجربة إيرانية وأخرى سودانية قصرت عن أن تقدم النموذج، الخوف أن يسير إخوان مصر وتونس خلفهما، ولن يغني الحديث عن «كفرة فجرة» في حق الإرهاب في رفح عن تصور مطلوب بإلحاح لاجتهاد سياسي عصري لإدارة دولة حديثة. آخر الكلام: السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير قدم تبريرا جديدا وذكيا في نفس الوقت، من أجل أن يحتفظ حزب الله بسلاحه، قال إن السلاح بجانب ردع إسرائيل، سوف يستخدم لحفظ ثروات لبنان من النفط!