قبل يومين تم تشييع جنازتين لشابين مصريين قتلا على خلفية الاستقطاب والاحتقان السياسي في مصر حالياً. أولهما هو جابر صلاح الشهير ب «جيكا» الذي ذهب مع أقرانه للتظاهر أمام وزارة الداخلية في الذكرى الأولى لمذبحة «شارع محمد محمود» التي وقعت العام الماضي وراح ضحيتها 58 شاباً بسبب همجية قوات الشرطة التي كانت متحالفة مع العسكر آنذاك. ذهب «جيكا»، ابن الستة عشر ربيعاً، كي يطالب بالقصاص ممن قتلوا زملاءه وأصدقاءه وينادي بتطهير وزارة الداخلية من بقايا الفساد من رجال مبارك ولكن، ناله ما نال زملاءه قبل عام. فقد قُتل «جيكا» برصاص قوات الداخلية وشيّعه زملاؤه من المكان نفسه الذي كان قد شيّع فيه «جيكا» زميله أسامة أحمد قبل عام. الشاب الثاني (أو بالأحرى الصبي فعمره لم يتعدّ 15 عاماً) هو إسلام مسعود الذي قُتل في مدينة دمنهور على خلفية الاشتباكات بين أنصار جماعة «الإخوان المسلمين» وبعض القوى السياسية التي خرجت للاعتراض على الإعلان الدستوري الأخير الذي أصدره الرئيس محمد مرسي. ربما يبدو من نافل القول إن مرسي هو المسؤول الأول، سياسياً وفعلياً، عن مقتل هذين الشابين (مثلما أيضاً هو المسؤول سياسياً عن مقتل أكثر من 50 طفلاً مصرياً قبل أسبوع بتصادم قطار مع حافلة مدارس في أسيوط). قد لا يبدو مهماً أن «جيكا» وإسلام كانا مجرد شابين صغيرين حالمَين مثل غيرهما من شباب الثورة اليافع، وإنما الأهم أنهما كانا من أهل الرئيس مرسي وعشيرته. فالصبي «جيكا» كان من أهم الداعمين لمحمد مرسي في الانتخابات ضد غريمه أحمد شفيق، وكان يجوب حارته يومياً لحضّ الناس على التصويت له كما ذكرت والدته في مقابلة صحافية قبل يومين. في حين أن الشاب إسلام كان من صميم أهل مرسي وعشيرته داخل جماعة «الإخوان» وفق ما تناقلته وسائل الإعلام. مقتل «جيكا» وإسلام يختصران المشهد السياسي في مصر ويقولان أكثر مما قد يقوله السياسيون ويردده «ساكنو» الفضائيات المصرية. فمن جهة هو انعكاس جليّ لفشل مرسي في التعبير عن طموحات الثورة وآمالها مثلما حلم بها «جيكا» وإسلام وغيرهما من شباب الثورة التي أطاحت نظام مبارك وجاءت بمرسي إلى الحكم. لذا، فمن المفارقات أن يصدر مرسي إعلانه الدستوري «السلطوي» من دون خجل تحت عنوان عريض هو «حماية مكتسبات الثورة». فلا وزارة الداخلية تم تطهيرها وإعادة هيكلتها ومعاقبة المتورطين في قتل شباب الثورة، ولا توافق سياسي بين مرسي وغيره من القوى السياسية قد حدث على رغم تعهد مرسي ذلك قبل جولة الإعادة في الانتخابات، فيما يُعرف باسم «إعلان فيرمونت». ومن جهة ثانية فشل مرسي في تحقيق أي إنجاز سياسي فيما يخص ملف التحول الديموقراطي وذلك على نحو ما فصلنا في هذه الصفحة قبل أسبوعين، وهو ما أدى إلى زيادة درجة الاحتقان حتى وصلنا إلى نقطة الانفجار الكبير بالإعلان الدستوري الأخير. ومن جهة ثالثة فقد فشل مرسي في أن يتخلى عن أهله وعشيرته في «الإخوان» كي يصبح رئيساً لكل المصريين. وهنا بعض التفصيل. يمكن قراءة الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي الأسبوع الماضي وحصّن فيه نفسه وقراراته وجماعته من خلال زوايا عدة وبطرق مختلفة. بيد أن الملمح الأساسي بالنسبة إلينا هو أن هذا الإعلان يعد تدشيناً فعلياً لعصر «الرئيس الإخواني» في مصر من دون جدال. فمن خلاله انتقل مرسي من حال السكون و «الاستحياء» السياسي (بعضهم قد يفسرها بأنها التقية الإخوانية) التي تقمّصها طيلة الشهور الثلاثة الماضية إلى حال الهجوم الصريح والمعلن كقابض وحيد على السلطة في مصر. فطيلة الشهور الماضية سعى مرسي لتوطيد حكمه من خلال تبني خطاب «شعبوي» جاذب لكثير من المصريين فضلاً عن سلوكه الشخصي الأقرب إلى التواضع شكلاً والمسيّس مضموناً. وحقق بذلك شعبية ملحوظة خصوصاً في ظل الهجوم الأحمق عليه من بقايا النظام السابق، فضلاً عن سذاجة معارضيه وتشرذمهم. يُضاف إلى ذلك مهارات مرسي الخطابية بخاصة في ما يخص قضايا السياسة الخارجية والتي حاول فيها أن يصرف الأنظار عن فشل حكومته داخلياً. وما إن دانت له الأمور، أو هكذا تصور بعد إزاحة العسكر من المقعد الأمامي للسلطة، حتى اتبع مرسي طريقة أسلافه نفسها من عبدالناصر وحتى مبارك في ما يخص استخدام السلطة والسلطان في التعاطي مع معارضيه. وإذا كان الإعلان الدستوري، كأداة قانونية، هو حق أصيل لمرسي إن لم يكن بحكم القانون فبحكم الأوضاع الملتبسة التي مرت بها مصر تحت حكم العسكر وأفضت فعلياً إلى تمكين الرئيس من البلاد والعباد، فإن كثيرين ظنوا بمرسي خيراً واعتبروا انه قد يصبح «الرئيس المؤسس» لدولة ديموقراطية حقيقية تحترم الفصل بين السلطات، وتسمح بمراقبة رؤسائها ومحاسبة مسؤوليها. بيد أن مرسي خذل الجميع واستخدم صلاحياته شبه المطلقة التي كفلها له الإعلان الدستوري المكمل. بكلمات أخرى، يمكن القول إن «إعلان مرسي» يحمل بذور ديكتاتورية جديدة يجرى تدشينها في مصر بعد الثورة وبغطاء شعبي. قد يرى البعض أن الإعلان الدستوري هو خطأ سياسي أو سوء تقدير وحسابات من مرسي، وهو ما قد يبدو صحيحاً، بيد أنه لا يخلو من دلالات كثيرة حول كيف يفكر الرئيس وكيف يتعاطى مع الأزمات السياسية التي قد تواجهه. من جهة فإن ظاهر الإعلان الدستوري أنه جاء لحماية الثورة من المتربصين بها خصوصاً بقايا نظام مبارك ومؤسساته الفاسدة التي تسعى لإفشال مرسي، بخاصة المواد المتعلقة بإعادة محاكمات المتورطين في قتل شهداء الثورة وإقالة النائب العام. بيد أن الرسالة الضمنية في الإعلان هي أن مرسي رئيس قوي يمكنه أن يفعل ما يشاء وعندما يريد. لذا، لم يكن غريباً أن يصدر الرئيس ما أُطلق عليه قانون «حماية مكتسبات الثورة»، والذي لم يتوقف عنده الكثيرون، في خدعة سياسية شبيهة بما قام به عبدالناصر بعد انقلاب 1952 حين استخدم مثل هذه القوانين الهلامية من أجل التخلص من منافسيه وخصومه و «تأميم» الثورة لمصلحته ولمصلحة أهله وعشيرته من العسكر. وقد عبر كثيرون عن تأييدهم للمواد «الإجرائية» في الإعلان الدستوري (الخاصة بإعادة المحاكمات وتطهير القضاء ومؤسسات الدولة... إلخ). ومن جهة ثانية، فإن الإعلان الدستوري يحمل تصريحاً واضحاً بأن الرئيس مرسي لم يعد وسيطاً بين الفرقاء السياسيين وحَكَماً بين السلطات كما كان يأمل كثيرون وإنما أثبت انحيازه الصريح لأهله وعشيرته في جماعة «الإخوان». فأصل الخلاف الحالي هو ما حدث داخل الجمعية التأسيسية للدستور التي شهدت انقسامات وانسحابات كثيرة طيلة الأيام الأخيرة، فما كان من الرئيس إلا أن أعلن «تحصين» الجمعية التي يهيمن عليها أهله وعشيرته من الحل أو الانقضاء القانوني. وقد ظننا أن مرسي لديه من الحكمة والحنكة ما يجعله قادراً على مخاطبة خصومه واحتوائهم قبل مؤيديه. صحيح أن بعض خصومه مزايدون ويسعون لإفشاله بأي ثمن، بيد أن الكثيرين منهم لديهم مطالب مشروعة كان يجب أخذها في الاعتبار وفتح نقاش جاد حولها بدلاً من إقصائهم بجرة قلم. ومن جهة ثالثة فإن «إعلان مرسي» هو محاولة «جس نبض» لرد الفعل ودرجة المعارضة الممكنة لقراراته في المستقبل. أي أنها معركة «كسر عظم» بين مرسي وبقية القوى السياسية. وربما تخيّل مرسي أن شرعيته الانتخابية تعطيه «صكاً على بياض» من أجل تحديد مصير التحول الديموقراطي بعد الثورة وتوجيهه وفق ما شاء. صحيح أن لدى الرجل شرعية انتخابية وسياسية (على رغم أنها ضعيفة)، لكنها شرعية مرهونة بأمرين: أولهما الالتزام بتنفيذ برنامجه الانتخابي (والذي ثبت لكثيرين أنه كان مجرد وهم كبير جاء تحت شعار «مشروع النهضة»). وثانيهما: قدرته على تحقيق توافق سياسي ووطني حول كيفية تحقيق أهداف الثورة وهو ما نسفه الإعلان الدستوري المشار إليه. ومن جهة أخيرة، فإن «إعلان مرسي» قد أنهى ما تبقى من رصيد للثقة ليس فقط بين جماعة «الإخوان» من جهة، وبقية القوى السياسية على تشرذمها وضعفها من جهة أخرى، وإنما أيضاً في إمكانية أن تصبح جماعة «الإخوان» قوة دافعة للديموقراطية في مصر. فالأزمة الحالية سيتم الخروج منها إن آجلاً أو عاجلاً، ولعل المخرج الأقرب في تصورنا هو إلغاء مسألة «تحصين قرارات الرئيس» مقابل الإبقاء على الجمعية التأسيسية وتمرير الدستور. بيد أن الضرر وقع فعلياً بمجرد صدور الإعلان الدستوري الذي خلق شكوكاً قوية حول مدى إيمان الرئيس وجماعته بقيم الديموقراطية. فما قام به مرسي كان باختصار «استعراضاً للقوة» ومحاولة «لي ذراع» معارضيه ومخالفيه من دون الدخول في حوار ومفاوضات حقيقية حول الخروج من أزمة الدستور. وقد كان ملفتاً أن مرسي أصدر إعلانه الدستوري من دون أن يستشير أحداً من طاقمه المساعد وذلك وفق ما صرّح بذلك كثير منهم وقد سبب ذلك استقالة عدد منهم. ولعل الأسوأ هو ما يُشاع عن قيام بعض مستشاري الرئيس من جماعة «الإخوان» ب «عزله» عن بقية المستشارين والمساعدين الآخرين. ما يعني عملياً أن الرجل لم يعد يملك قراره في يده. وكانت النتيجة المؤسفة للإعلان الدستوري أن دخلت البلاد في نفق سياسي مظلم أدى إلى احتقان وعنف لفظي ومادي بات يهدد السلم الاجتماعي في مصر. ناهيك عن حال الانقسام الحاد في المجتمع والصراع الرهيب بين السلطات خصوصاً السلطتين التنفيذية والقضائية. يخطئ مرسي و «الإخوان» إذا ظنوا أن «الإعلان الدستوري» هو بمثابة نصر سياسي لهم. فالحقيقة أنهم خسروا الكثير من وراء صدور هذا الإعلان «السلطوي»، ليس أقله جيل الشهيدين «جيكا» وإسلام.