إذا صحّ أنّ مصطلح «الجماهير العربيّة» بدأ يفقد معناه في السبعينات، صحّ أيضاً أنّ ما من «جماهير إسلاميّة» حلّت محلّها. ما من شكّ في أنّ المنطقة تشهد، منذ عقود أربعة، تصاعداً في الوعي الإسلاميّ يسمّيه أهله «صحوة». وما من شكّ كذلك في أنّ الوعي الإسلاميّ، مثله مثل الوعي القوميّ، عابر لحدود الدول الوطنيّة، واعد بدولة ذهبيّة تستعيد الإسلام الأوّل. لكنْ على رغم هذا وذاك، لم نشهد «جماهير إسلاميّة» تتحرّك على إيقاع قضيّة واحدة ذات ديمومة، يحرّكها قائد كاريزميّ من النوع الذي وفّره جمال عبد الناصر ل»الجماهير العربيّة». فقد تظهر فورة عابرة للحدود الوطنيّة، تدوم يومين أو ثلاثة، في حال تعرّض رموز الإسلام للإهانة، أو ما قد يُعتبر كذلك. إلاّ أنّ هذا العنف العارض والهائج شديد البعد عن أن يُسمّى قضيّة جامعة وذات ديمومة. وما ينطبق على القضايا ينطبق على القوى: فهناك فعلاً سلفيّون جهاديّون عابرون للحدود، وقد رأينا الظاهرة هذه بأشكال متفاوتة في أفغانستان وكوسوفو والعراق وغيرها. لكنّ الجهاديّين هؤلاء لم يرقوا مرّة واحدة إلى حالة سياسيّة، فيما عملهم الإرهابيّ نفسه يحول بينهم وبين أن يكونوا جزءاً من حالة جماهيريّة عريضة. أمّا الإخوان المسلمون، وعلى رغم تنظيماتهم «الدوليّة»، فمشدودون إلى الأوضاع المحلّيّة لبلدانهم على نحو نراه ساطعاً هذه الأيّام. ذاك أنّ «حكم الإخوان» لتونس ومصر لا يملك أيّ انعكاس إخوانيّ له خارج البلدين المذكورين. وقد يجد نفسَه رئيس إخوانيّ كمحمّد مرسي في ورطة لا تُحمد عقباها، كالتي يواجهها اليوم بفعل تجاوزه على القضاء وفصل السلطات، من غير أن يملك الإخوان غير المصريّين أكثر من رأي بارد في ما يجري في مصر. وإلى هذا جاء التنسيق الأخير بين الإدارتين الإخوانيّتين في القاهرة وغزّة، لإحلال التهدئة، متساوقاً مع القنوات الديبلوماسيّة والدوليّة ومنافياً تماماً لرغبة الراغبين في استخدام سلاح «الجماهير» العابرة للحدود. والحال أنّ الفضائيّات العربيّة كانت سبّاقة، في التسعينات، إلى سكّ تعبير بالغ الالتباس والغموض هو «الشارع العربيّ». وهذا الأخير يقول كلّ شيء من دون أن يقول شيئاً محدّداً. ففي «الشارع العربيّ» يتجاور الولاء للمنطقة والطائفة والدين مع الافتخار بالوطن، وتتعايش اللفظيّة المناهضة للولايات المتّحدة وإسرائيل مع السعي الشبابيّ للاندماج في الثورة التقنيّة والمعلوماتيّة التي تهبّ علينا من الغرب، كما تتناظر المشاعر الوليدة عن الحرّيّة والفرديّة وانتشار هتاف «بالروح، بالدم، نفديك» يا أيّاً كان. وأوّل ما يشي به هذا الكولاج من المشاعر و»الأفكار» ضمور الوعي الإيديولوجيّ على نحو يبرع الإسلام السياسيّ في نقله والتعبير عنه. ففي هذا الأخير يمكن أن يوجد كلّ شيء لأنّ الإسلام يتّسع لكلّ شيء. بيد أنّ رحابة كهذه لا تعني سوى غياب الأشياء جميعاً وسيادة البعثرة والتذرّر. وبمعنى ما عبّر «الربيع العربيّ» عن هذا المنحى وعن سيادته، هو الذي شهد ثورات وُصفت بقلّة الإيديولوجيا وبضعف الحركات المنظّمة. وهذا منعطف يضعنا أمام احتمال تعدّديّ تنظّمه عمليّة ديموقراطيّة، كما يضعنا، إن لم نُحسن الاختيار، أمام احتمال الفوضى المطلقة التي تنقلب دمويّة بالضرورة. في الحالتين، ما من حاجة للفائض الإيديولوجيّ وما من حاجة ل»جماهير» عابرة للحدود الوطنيّة.