خلفت المواجهات التي عرفتها منطقة «دوار هيشر» غرب العاصمة التونسية بين الشباب السلفي وأعوان الأمن، جدلا سياسيا واسعا حول جدية تعامل حكومة حمادي الجبالي مع الملف الأمني ومدى سيطرتها على كافة الأطراف التي تسعى إلى التأثير على هيبة الدولة التونسية. واعتبرت مجموعة من الأحزاب السياسية خاصة منها الأقلية المعارضة بالمجلس التأسيسي (البرلمان) أن التعاطي مع الوضع الأمني كان ضعيفا ولا يرقى إلى حجم المخاطر التي تمثلها ردود فعل المجموعات السلفية غير المحسوبة، واتهمت في ذلك وزارة الداخلية التي يقودها علي العريض (القيادي في حركة النهضة) ومن ورائها حركة النهضة التي تقود الائتلاف الثلاثي الحاكم بعدم الجدية في حسم أحد الملفات الأمنية الشائكة. ودللت على صحة رأيها بتعاطي الحكومة الذي اعتبره متابعون سلبيا مع مجموعة من الأحداث الأمنية من بينها أحداث السفارة الأميركية التي جرت يوم 14 سبتمبر (أيلول) الماضي، ومحاولة القبض على الشيخ السلفي «أبو عياض» بجامع الفتح وسط العاصمة التونسية والتراجع عن اعتقاله في اللحظات الأخيرة وكذلك حادثة احتجاز طاقم كرة قدم بسيدي بوزيد (وسط تونس) والمطالبة بمقايضتهم بمجموعة من الموقوفين في السجون بعد مشاركتهم في احتجاجات اجتماعية. وذهبت أطراف سياسية أخرى إلى حد اتهام حركة النهضة بغض الطرف عن التيار السلفي والاستنجاد به عند الحاجة لمحاصرة أنشطة خصومه السياسيين بما يمثل «اليد الطولى» للحركة في تعاطيها مع المشهد السياسي المتقلب. وترى كل تلك الأطراف أن هذا الوضع قد أوصل الحكومة ووزارة الداخلية إلى حالة من الفشل الأمني في إدارة الصراع مع التيار السلفي الذي بات يهدد السلم الاجتماعي وعملية الانتقال الديمقراطي على حد تعبير بعض المحللين السياسيين للحالة التونسية وتظاهر مئات من رجال الأمن من مختلف الأجهزة في تونس أمس لإدانة الهجمات التي يقولون إنهم يتعرضون لها خصوصا من قبل التيار السلفي، ونقص الوسائل الموضوعة بتصرفهم، كما ذكرت صحافية من وكالة الصحافة الفرنسية. وتجمع شرطيون وعناصر من الحرس الوطني والدفاع المدني لمدة ساعة أمام مبنى وزارة الداخلية صباح الخميس. وقال سامي قناوي المسؤول في النقابة العامة للحرس الوطني لوكالة الصحافة الفرنسية: «ندين أعمال العنف، ونطلب من الحكومة اتخاذ الإجراءات اللازمة بسرعة كبيرة جدا لحماية العناصر وعائلاتهم الذين تلقوا تهديدات». وتطالب قوات الأمن خصوصا بمعدات وتعليمات تسمح لها باستخدام كل الوسائل اللازمة لضمان أمن عناصرها عندما يتعرضون لهجوم. ويشكو رجال الأمن المتظاهرون أيضا من عدم اعتراف التونسيين بجهودهم بعد أن عانت الشرطة من سمعة سيئة في تونس بسبب القمع الذي مورس إبان عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. واعتبر معز دبابي من نقابة الحماية المدنية أن الشرطة فقدت هيبتها منذ سقوط النظام، ولا تحظى بالاحترام من قبل الشعب؛ الأمر الذي يزيد من مخاطر تعرضها للاعتداءات. وأضاف أنه عندما يفقد شرطي هيبته، فإن كل الدولة تفقد هيبتها. في غضون ذلك أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية تمديد حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر متتالية تبدأ من الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري. يذكر أن قرار التمديد في حالة الطوارئ كان خلال الفترة الماضية يتخذ لمدة شهر فقط. وقالت الرئاسة في بيان لها إن القرار اتخذ باقتراح من القيادات العسكرية والأمنية، وأكدت في المقابل على التحسن الملحوظ للوضع الأمني العام بالبلاد. في هذا السياق صرح محمد الصالح الحدري وهو عقيد عسكري متقاعد ورئيس حزب العدل والتنمية (تأسس بعد الثورة وهو ذو مرجعية إسلامية) ل«الشرق الأوسط» أنه من الجائز الحديث عن فشل أمني في مثل هذه المواقف ولكن البحث في الأسباب يحدد المسؤوليات أكثر على حد تقديره. وقال: إن أسبابا سياسية بالأساس تقف وراء الفشل الأمني المذكور من بينها عدم توفر «مواقف جريئة وشجاعة» من قبل الدولة في حسم الملف السلفي والسعي الجاد لمقاومة العنف الإسلامي السياسي. وأضاف أن الشباب السلفي قد سيطر منذ أشهر على مجموعة من المساجد وسعى بوسائل عدة إلى فرض آرائه السياسية والدينية بالقوة وهو يعتقد أن استعمال القوة جائز لفرض الرأي ويعتبر شقا منهم بعض التونسيين «عبدة قبور» و«أصحاب بدع» عليهم مقاومتهم بكل الطرق. وقال: إن المؤسسة الأمنية التونسية لا تعوزها الإمكانيات أو الجرأة لتطبيق القانون ولكنها تفتقر لتعليمات واضحة عند التصرف مع الأحداث وهي تطالب اليوم بتطبيق قانون سنة 1969 الذي يبيح لأعوان الأمن اللجوء إلى الذخيرة الحية في مواجهة المحتجين المهددين لحياة أعوان الأمن ولكن وزارة الداخلية ليست موافقة على هذا التوجه على حد تعبير الحدري. ودعا الحدري إلى رد فعل حازم من قبل الحكومة للمحافظة على هيبة الدولة التي مرغتها بعض الأطراف في التراب على حد قوله. ونبه إلى أن حركة النهضة قد لا تكون حاسمة في المجال الأمني لأنها تفكر منذ الآن في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة وتعتبر الشباب السلفي رصيدا انتخابيا قد يحسم المعركة مع الأطراف العلمانية عند الحاجة. واعتبر أن هذا التصرف هو الذي يجعلها تقع في وضعية «ازدواجية الخطاب السياسي» على حد قوله. وكان علي العريض وزير الداخلية التونسية قد دافع في مجلس وزاري انتظم أول من أمس عن وجهة نظر الحكومة في التعاطي مع ملف التيار السلفي وقال: إن الحكومة لا تتعامل مع السلفيين وفق سياسة المكيالين. يأتي تصريحه هذا وسط دعوات من الأقلية المعارضة بتحييد وزارات السيادة عن الأحزاب السياسية وخاصة وزارتي الداخلية والعدل (على رأسهما قياديان من حركة النهضة). وقال العريض في هذا الشأن أن «سياسة الحكومة لا يشوبها غموض» ليعود ويؤكد أن الوزارة الداخلية تؤدي واجبها الأمني دون التعرض لضغوطات سياسية. واعتبر أن الوزارة تطبق القانون وتحرص على نفس قواعد التعامل الأمني والقانوني مع جميع المخالفين دون استثناء لأحد وهي لا تنطلق من أي خلفية سياسية أو آيديولوجية في تعاملها مع الخارجين عن القانون على حد تعبيره. وانتقد العريض ترويج بعض الأطراف السياسية لتحميل المسؤولية لوزارة الداخلية، ودعا إلى تحييد الأمن والقضاء عن التجاذبات السياسية وأكد من جديد التزام حكومة حمادي الجبالي بتحييد المؤسسة الأمنية عن كل الصراعات السياسية. وبشأن الظرف الأمني الاستثنائي الذي مرت به منطقة غرب العاصمة التونسية وفشل التعاطي الأمني مع ظاهرة الإسلام المتشدد، دعا محمد الكيلاني الأمين العام للحزب الاشتراكي (حزب يساري حصل على الترخيص القانوني بعد الثورة) إلى مشروع عاجل لإنقاذ البلاد من مصير مظلم على حد قوله، وقال ل«الشرق الأوسط» أن تونس بعد الأحداث الأمنية المتراكمة أصبحت في حاجة أكيدة خلال المرحلة التي تلت يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) إلى التوافق وذلك عبر بعث حكومة إنقاذ لا يتجاوز عدد وزرائها 20 وزيرا توكل لها مهمة تصريف الأعمال وإيصال البلاد إلى موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة. واعتبر أن هذا الإجراء سيخفف من درجة التوتر السياسي ويفتح الباب أمام المشاركة السياسية لكافة الأطراف. وأضاف أن بعض القيادات السياسية لا تزال تعتبر نفسها مقصية عن المشهد السياسي وغير مشاركة بفعالية في عملية الانتقال الديمقراطي.