حادثة سير مروعة بطنجة تودي بحياة فتاتين وإصابة شابين    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    إصابة عنصر من القوات المساعدة بحروق خطيرة في حريق سوق بني مكادة بطنجة    المغرب ينجح في توقيف فرنسي من أصل جزائري مبحوث عنه دولياً في قضايا خطيرة    المغرب يعود إلى الساعة القانونية    افتتاح أخنوش رفقة ماكرون للمعرض الدولي للفلاحة بباريس يشعل غضب الجزائر    تذكير للمغاربة: العودة إلى الساعة القانونية    التحولات الهيكلية في المغرب.. تأملات في نماذج التنمية والقضايا الاجتماعية الترابية" محور أشغال الندوة الدولية الثانية    الأسير الإسرائيلي الذي قَبّل رأس مقاتلين من "القسام" من أٌصول مغربية (فيديو)    نهضة بركان يحسم لقب البطولة بنسبة كبيرة بعد 10 سنوات من العمل الجاد    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    مقتل شخص وإصابة عناصر شرطة في "عمل إرهابي إسلامي" في فرنسا    تمارة.. حريق بسبب انفجار شاحن هاتف يودي بحياة خمسة أطفال    الجيش والرجاء يستعدان ل"الكلاسيكو"    التعادل يحسم مباراة آسفي والفتح    اختتام رالي "باندا تروفي الصحراء" بعد مغامرة استثنائية في المغرب    منتخب أقل من 17 سنة يهزم زامبيا    توقيف عميد شرطة متلبس بتسلم رشوة بعد ابتزازه لأحد أطراف قضية زجرية    انطلاق مبادرة "الحوت بثمن معقول" لتخفيض أسعار السمك في رمضان    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    الملك محمد السادس يهنئ العاهل السعودي    توقعات أحوال الطقس ليوم الاحد    أخنوش يتباحث بباريس مع الوزير الأول الفرنسي    تجار سوق بني مكادة يواجهون خسائر كبيرة بعد حريق مدمر    المغرب بين تحد التحالفات المعادية و التوازنات الاستراتيجية في إفريقيا    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    البطلة المغربية نورلين الطيبي تفوز بمباراتها للكايوان بالعاصمة بروكسيل …    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومميزة في مكافحة الإرهاب    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    مساءلة رئيس الحكومة أمام البرلمان حول الارتفاع الكبير للأسعار وتدهور الوضع المعيشي    "الصاكات" تقرر وقف بيع منتجات الشركة المغربية للتبغ لمدة 15 يوما    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    رفض استئناف ريال مدريد ضد عقوبة بيلينغهام    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط تهريب مفرقعات وشهب نارية وتوقيف شخص في ميناء طنجة المتوسط    الكوكب المراكشي يبحث عن تعزيز موقعه في الصدارة عبر بوابة خريبكة ورجاء بني ملال يتربص به    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    الصين تطلق أول نموذج كبير للذكاء الاصطناعي مخصص للأمراض النادرة    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    دراسة: هذه أفضل 4 أطعمة لأمعائك ودماغك    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    "ميزانية المواطن".. مبادرة تروم تقريب وتبسيط مالية جهة طنجة للساكنة    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعريةُ الشفوي ومعضلة الواقعي
بصدد رواية مبارك ربيع الأخيرة 'أهل البياض'
نشر في مغارب كم يوم 14 - 10 - 2012

1 تحتاج هذه القراءة للرواية الأخيرة للروائي المغربي مبارك ربيع إلى تذكير ضروري بالعمل الإجمالي لصاحبها، وهو يعد كبيرا ومركزيا في مجموع المتن الروائي المغربي خاصة، والعربي الحديث برّمته عامة.
فقد نشر صاحبها عمله الأول 'الطيبون' سنة 1972، مسبوقا بمجموعة قصصية 'سيدنا قدر' (1969)، وأتبعه برواية رسخت قدمه في هذا الفن هي 'الريح الشتوية' (من جزأين 1980) لتتلوها بعد ذلك أعماله التي ستجعل منه أبرز كاتب رواية، قل الروائي الثاني، تأسيسا وريادة، بعد العميد عبد الكريم غلاب، وإلى جانب الراحل محمد زفزاف، منها 'درب السلطان'(في ثلاثة أجزاء) و'طوق اليمام'، وأخيرا العمل الذي نخص به هذه القراءة: 'أهل البياض' (دار الساقي، بيروت، 2011) علما بأن لربيع عديد مجاميع قصصية، تجعله من أعمدة فن القصة القصيرة في أدبنا المغربي الحديث، من كتاب الستينيين ومطالع السبعينات، البُناة الأُصلاء لصرح هذا الأدب ومرسخيه أعمدة وتجديدا.
2 في مجمل هذا الإنتاج، قصصا وروايات، عرفنا كتابة صاحبه، رؤية ومضامين وعوالم وشخصيات وفضاءات وصنعة فنية، تنزع إن لم تندرج كليا في إطار المدرسة الواقعية، بين وصفية طبيعية، وشاهدة ملتزمة، ونقدية منحازة، وفي الأحوال كلها، وعلى تنوع تيارات هذه المدرسة التي تتخذ في كل بيئة ثقافية وأدب إهابا خصوصيا، جاء النتاج الحافل لهذا الكاتب الرائد مغموسا في التربة الشعبية، مُشبَعا بطباع أهلها، ومخيال ساكنتها، وزبدة ثقافتهم. وقبل ذلك ممثلا تمثيلا مباشرا، تارة، ومحورا رمزيا، تارة أخرى، لشخصيات وأنماط اجتماعية، تتمحور حولها الحكايات، وتُنسج في مسلكياتها وعلاقاتها الحبكات والمصائر، تكشف عن واقع بالوصفية العارية، تفضحه، أو تدينه، وفي المحصلة هي شاهدٌ وعلامة عن زمن وحياة.
3 وفي الخلاصة، تمثل الكتابة السردية لمبارك ربيع، ذلك الزواج الضروري، بل الحتمي الذي ارتبط فيه الكتاب المغاربة، على غرار زملائهم في المشرق، مع بعض تفاوت، ب'عقد اجتماعي وطني'أعطاهم، أولا، شرعية الوجود، منذ انطلاق الحركة الوطنية في مواجهة الاستعمار بدءا من الأربعينات، وامتحن هذه الشرعية كما عززها عقب الاستقلال، والعقدين المواليين له، بوصفهم مدافعين دائما عن قضايا الشعب، أبناء فئاته الدنيا والمتوسطة، المرتبطين والفريق الرديف لإيديولوجيا حركة التقدم الاجتماعية والديموقراطية، بأطروحاتها وبرامجها المخصوصة. ذاك الارتباط الذي اتخذ من التعبير الأدبي مُسوّغا قوليا، فلزم بقدر ما يمتثل لمقوماته، أن يختص بمقتضيات القول جنسا وصنعة وَنسَقا. ولم يَكُ الأمر سهلا ولا مُيسّرا، سواء باشتراطات المحيط، أو مؤهلات المنخرطين في هذا السلك، على أكثر من نحو. لذا، نعتبر أن النتاج الإجمالي لمبارك ربيع الذي انحاز دائما وبالدرجة الأولى إلى الأدب، قبل أي مذهب سياسي، وبعد الالتزام بالقيم الوطنية والإصلاحية، والمُثل الأخلاقية المتعالية يمثل بحق وبشكل ناصع إحدى الصور النموذجية لمشهد الرواية المغربية في خطوات تأسيسها وتبلورها الناضج، ونسقا بارزا لعوالمها وصنعتها ودلالاتها به تُعرّف وتتميّز أوْ لاَ.
4 لم يبلغ عمل مبارك ربيع هذه الرتبة ويندرج في السلك الموصوف، إلا بعد تسلسل زمني ومواظبة قلمية، ودأب فني لم يتوفر إلا لقلة مكافحين وهم كذلك في تشييد أدبنا الحديث وهم ما زالوا قلة رغم تكاثر الأقلام وسيولة الأحبار فتدرّج من البسيط إلى المركب، وتمرّس بألوان من السرد، سهلِه وممتنِعه، وضمّت رواياتُه حيوات، ورصدت نشوءَ وتطورَ مصائر، يتجاور فيها الفردي بالاجتماعي، والنّووي بالمجتمعي، وهذا بالتاريخي، وصولا إلى الرمزي والاستعاري. هذا كله، وهو مخلصٌ لنهجٍ واحد تقريبا لا يكاد يحيد عنه، إلا ليعود إلى سِكته، كأنما عرف طريقه أو حدَسَه مذ خطَّ كلمته الأولى، انتسب إلى عالم السرد من الوقوف فوق أرض الواقع، وعليها ترعرع عودُ قلمه، واستدّ ساعِدُ كتابته، وإلي هذه الأرض يعود كما للحب الأول، في هذا كثيرٌ من قوته، ولا بأس لو قلنا بعض ما يوهن العود وتكلّ به الموهبة.
5 ولو أردنا أن نختار، من بين أدوات ومواد ما يستخدمه الكاتب عن وعي، وبدراية، أيضا، لتسخيره في مشروع سرده الواقعي، لما وجدنا أفضل من استخدامه الشخصي للغة، متمرنا، متقلبا، بين تيسير العبارة، وتطويع الجملة، وتدريج الفصيح، وتفصيح العامي، في تناوب يُفضي إلى لغة ثالثة، تنتمي إلى سجلين، وتلغو في محيطين، متجاذبة، متلفظة بين غير لسان ومزاج وثقافة وذوق، نابعة في الأصل من عالم الرواية المرصودة، خاضعة له، وبه ناطقة. وما موضوع اللغة داخل الرواية بالأمر السهل، واللغة الروائية تحديدا، شَغَلَ كتاب العربية مذ خطواتهم البدئية المتعثرة في درب السرد الحديث، وتخبطوا، وجربوا، والأمثلة لا تُعْوز، بدءا من المويلحي، مرورا بتيمور، فهيكل، فيوسف إدريس خاصة، عبورا بعديد تجارب أساس في العراق (فؤاد التكرلي)، وتونس (المسعدي) و(عز الدين المدني) وصولا إلى التدريج الفائق وضيق الخناق بتنا نلقاه في رواية الجيل المتأخر في مصر ولبنان خاصة، يتخذ مسوغات فنية وثقافوية، ينمّ تارة عن مرجعية فنية، تصل أحيانا إلى الوفاء أو الالتصاق بالجلد الخشن لواقعية فولكلورية، أو يروّج لنعرة محلية ساذجة، لكم تنمّ عن خصاص فكري وفني مدقعين. وفي الأحوال كلها يبقى المشكل برُمته مفتوحا وقابلا لعديد تأويلات، كوننا نعيش ازدواجية اللغة الشفوية والمكتوبة، ونظرا لإزمان معضلة الأمية وتفرعاتها في بلداننا.
6 لم يكن لمبارك ربيع بُدٌّ من أن يرتمي في خضم هذه القضية المعضلة، واختيارُه، على ما أظهرنا، ولم نشرح كفاية، وثيق الصلة بها، مستثمر في مجالها بقدر ما هو منتج، وعمله السردي مذ 'الريح الشتوية' إلى 'أهل البياض'، مضمار هذا القول، رهنٌ بها ولها مُكرّس إلى حد بعيد، وإلا فانظروا معنا زمنية تبلغ الآن أربعة عقود، 'فبأي آلاء ربكما تكذبان' (!).
وبتتبعنا لهذا المسار الطويل قراءةً ودرساً، وقفنا عنده في أبحاث جامعية لنا ولغيرنا، وتبيناه في أوراق نقدية بمناسبات وطنية وعربية، بل درّسناه للطلبة ومعدي الأطاريح، بما يُزكِّي قامة صاحبه الأدبية؛ أقول بهذه المتابعة الحثيثة لم نر أكثرحرصا ولا اشتغالا على المسألة اللغوية، ولا إمعانا في تكليفها وتحميلها الوزر شبه الكامل في إقامة عُمُد رواية، وإيلائها الدور الأول والمركزي في الاضطلاع بمسؤولية التعبير الواقعي، وإبراز أقوى تمظهراته وأخصِّها نطقا ومرجعية وتورية أيضا، لم نر شيئا من هذا مثلما عند ربيع، كما هو مجلوٌّ، متلفّظٌ ، في رواية 'أهل البياض'، تستحق أن تؤخذ مفردةً لمن يرغب في سياق هذا المثال. والألطف أن يعاضِدها موضوعُها ومجالُها المجتمعي وتمثيلاتُها على الجملة، فضلا عن معانيها ومراميها، فيتوافق الشكل والمضمون إلى حد مثير ومثالي، لولا،،، لولا ما سنرى.
7 والأول، حكاية هذه الرواية، وهي حكايات متآزرة، جداول صغيرة تذهب لصنع نهر حياة، مظهرٌ من حياة من بِتنا نسميهم المهمّشين، أهل الهامش، قياسا بمن يعيشون في المركز. ومن غير أن يسمي المؤلفُ المكانَ ولا الحيَّ الذي تدور فيه قصتُه ويحيا شخوصُه، نفترضه واحدا من أحياء الصفيح، أو ما يشبهها كثير في مغرب اليوم، حيث يقطن آلاف من النازحين من الأرياف، ومن ممتهني الحرف العارضة وباعة المتلاشيات ومثله. ولنركز خاصة على ثلاث شخصيات: المحجوب البقال، شخصية مركزية في مثل هذه الأحياء، المتجر للبيع واللقاء وتصريف الأخبار، وصاحبه ينقل فعلا كل أخبار وهواجس الحي إلى مأمور الشرطة. والفقيه عبد الله البصير (الضرير) الذي يمتهن التسول بمساعدة ابنته فايزة، قبل أن تستقل هذه بتجارة ما اتفق، عند نواصي الطرقات، فتكفيه ضناه. وشخصية شبحية تدعى (ليشير، وهي تسمية أصلها فرنسي، معناها العزيز، وتطلق مغربيا على الطفل، فيما الملقب بها شاب، قوي البنية وخارج عن طور العقل لأزمة مرت به، ولن نعرفها أبدا، ليبقى مثار تعلق أهل الحي رجالا ونساء، بوصفه أبله الحي، متخللا كل حوادثهم وحكاياهم، بلا مبرر ظاهر، وكأنما هو لحمة مفترضة، لا تقدم ولا تؤخر، في قصة تحتاج إلى آصرة مشتركة، وإلا بقيت مشاهد وقصصا مبعثرة، وهي هكذا تبدو). بين هؤلاء شخصيات من الدرجة الثانية، من مكونات الحي: السهيلي، صاحب ورش بناء. الحموني، رئيس مركز شرطة الحي، والشرطي ميمون، وعمال بناء. تحيط بهم حلقة نساء: عيادة، زوجة الفقيه لبصير؛ فايزة بنته؛ غياتة بغيٌ وامرأة طليقة؛ المعزوزة، من نساء الحي المطلعة على خباياه، الوسيطة في أزماته.
8 تتجاور حياة هؤلاء الناس، وتتقاطع، وتتضارب، وتتكامل في الأخير لتشخيص بانوراما حيّ شعبي يتعايش أهله ويختصمون ثم يتصالحون ويتكاذبون وينافقون ويخافون من السلطة وهم يعرفون أن مصيرا مشتركا يجمع بينهم هو وضعهم (الطبقي) وفضاء معيشهم، والثقافة والقيم المنبثقة عنهما، الطابعة لحياة القوم، وتتولى الرواية (الكتابة) وصفها ونحتها وإنطاقها. يتم ذلك في حيز مغلق، لأن كل من يخرج من الحي لغرض ما، يعود إليه لا محالة: الضرير المتسول، ابنته البائعة، بائعة الهوى غياثة، وراضية زوجة السهلي التي ستعود إلى الحي رغم اختفاء ملغز طال، عمال البناء، الخ. حيٌّ يقع في تماسٍّ مع المدينة، بمعنى أنه خارجها، على هامشها، معمارا وعيشا وشجونا، وعينُ الأمن عليه متوجسا من أقل نأمة كي لا يُعدي. بذا، فهو بِِركة آسنة يتجمّع فيها التعدي والاغتصاب والتواكل والخرافة والشعوذة والشطط والاستغلال والتواطؤ والخوف، ويَحُلّ الاستسلام للقضاء والقدر في ذروة هذه الخصال.
9 في الحقيقة، لا شيء يحدث في هذه الرواية، ما دام همُّها في مكان آخر، وصاحبها لم يكتبها لتحريك سكون البِركة، بقدر ما عني بوصفه، بتكليمه، وبشرحه، وما أكثر ما خطب وشرح. وما فِعلُ اغتصاب الفتاة فايزة، واختفاءُ راضية مع اتهام الشرطي ميمون بقتلها سوى حبكة مصطنعة مطلوبة شكلا لتشويق قارئ مبتغاه الحكاية البسيطة. تأخذ صفة البياض في هذا العمل أكثر من معنى، يحب المؤلف تركها رجراجة، متراوحة بين السذاجة والرثاثة والطيبة والصفاء وحتى البَرَكة، وهي الفلسفة التي يريدنا ربيع أن نقتنع أنها تلخص وضع ومصير الشريحة البشرية التي اختار نموذجا لعرضها سلوكيا ونفسيا وخلقيا، وكم كان أنسب لو اكتفى بالعرض والتمثيل دون إقحام خطاب ما انفك ينظِّر هنا، ويعلق هناك، يكبّل ما كان جديرا بالانطلاق. لكن الأهمّ يقع في مكان آخر، بما يتوافق مع نهج المؤلف ومنظوره.
10 الأهمّ، في أهل البياض وعندهم هو طينتُهم ومعدنُهم، بياضُهم الذي قلنا يؤخذ على أكثر من محمل وتفسير. إنه صفة لون، ولون معنى، والمعنى تستوعبه كلمات، وينقله ويؤديه خطاب، منجّما ومجتمعا. هكذا تنقسم الرواية إلى قرابة ستين مقطعا متفاوت الطول، مقبولا حينا ومسهبا وممططا ومكرورا بإسراف، لا نعلم هل هو تكرار مقصود أم سهو، أم يكون شيئا آخر. هذا الكمّ الذي يعطي رواية من (391) من القطع المتوسط بحروف مريحة يفي ويزيد بالمطلوب. ما هو يا ترى؟ إنه توليد اللغة الشعبية وإنطاقُها بأكبر قدر وأوفى معنىً وأغنى إيحاء. المساحة التي تطلبتها هذه الغاية برّرت أو تبرِّر عند المؤلف كل ما قد يسِمُ عمله بما يشينه. خاصة إن كانت الأفعال في الحيّز الروائي المرصود قليلة، والشخصيات على تعددها معدودة ونمطية في الأخير، بصفات أيقونية، في فضاء الحي الشعبي الهامشي، المنزاح والساكن في الزمن، منكفئا على ثقافته، وآسنا في حياته رغم أيّ يتبدل عابر أو مصطنع.
11 ليس هذا الشاغل جديدا عند مبارك ربيع، إذ ارتبط بكل تأليفه السردي، أحدُ مداخل فهمه الأساس للواقعية، واجدٌ هنا مفتاحه الأمّ. فبما أنه يكتب عن الفئات الشعبية والمتدنّية، المهمّشة والبدوية أيضا، يضع على لسانها لغتَها، أو ما يقترب من ذلك، فلا تغترب عن حالها ولا تأتي متمحّلة، متكلفة، منفصمة بين الواقع الحافّ والمحاكاة الروائية. لنترك مناقشة هذا المقترب المهم الآن، كيفية حضوره في العمل الأخير ووظيفته. يثير تساؤل من هذا القبيل وضعية السارد في الرواية، بل ووضعية المؤلف، وبينهما من قبل وضع كل شخصية على حدة. والحال أنه لا يوجد، على الأغلب، إلا من نسميه (سارد مؤلف مرسل) يهيمن على القول وينتج الخطاب على مقاس، وحسب لغة وإرسالية مشفّرة ومسنّنة إلى مرسل إليه مفترض، من طينة الإرسالية، باعتبار أن التزام نهج الواقعية يقتضي التواصل، عند الكاتب حد التطابق، ولذلك فهو يتولى هذه المهمة بحرص الموثّق، تتوزع على جميع الأدوار والأجناس ذكورا وإناثا، والأفكار والأعمار والمواقف والأحاسيس والحِرف، بما يجعل اللغة المستعملة، لغة منمّطة لصيقة ببيئة، قاموسية في مجالها لا تخرج عنه، هي ترجمان الأحوال. وهي لغة متقوقعة داخل هذا المجال، بدوية وشعبوية ولقيط (لا مدينية حقا، ولا بدوية)، كما لا تُفهم أبعد من نطاقها، فكيف للقارئ العربي عامة، وكله دائما باسم الوفاء للواقعية(؟).
12 يذهب الاستغراق في تشغيل 'الماكنة' اللغوية، وتسخير قاموسها إلى حد يعطيها دور البطولة، بصرف النظر عن من ينطق بها، يتمثل هذا بدءا من المفردات والتراكيب والصيغ المستعملة، باعتبارها من وجهة نظر المؤلف هي السائدة، والرائجة، في حيه الشعبي المنتقى فضاءً لروايته، لحياة شخصياته، المصبوبة في قوالب مسبقة، فتأتي نمطية متجانسة مع لسانهم، وأي لسان، وينتهي إلى تلقيح اللغة العربية الفصحى لتبْيِئَتِها مع القدرات القولية للمحيط، وتلقيح هذه بدورها في نفس الاتجاه، ما يخلق هُجْنة تنجح حينا، وتخفق، أو لا تستساغ أحيانا أخرى، لا سيما حين تتورّم بالإفراط تكرارا وتمطيطا فتقع في الإسفاف، وهذه خاصية شعبوية بامتياز. بالطبع، لا يوجد قاموس ولا استعمال لغوي مجرد، أي منفصل عن مرسل ومرسل إليه وسياق، وبالمقابل يعدم الاستعمال (اللَّغْوي) أي وظيفة، ويتحول إلى واجهة استعراضية، بهرجية. لقد عمد روائيون كبار (سيلين، وهنري ميللر، ونجيب محفوظ، مثلا) إلى نفض غبار القدم والكلاسيكية الفجّة عن اللغة الروائية وحواراتها، بإدخال اللغة اليومية وقاموس الحياة الحديثة، لكن جاء ذلك على منوال مختلف، وبمبدأ تعدد اللغات في مجتمع متجدد ومركّب.
13 إنما لا بأس أن نبحث للكاتب عن شفيع في ما شغف به، نختصرُه في كون أهل البياض، في الرواية وخارجها، هم وسيبقون شفويين. والشفوية لها طريقتها وسُننُها تختلف كثيرا عن الكتابة، عن المكتوب. والشفويون مكلامون، تصطفق على ألسنتهم أمواج المفردات واللغات والمحكيات والأمثال بمرجعيات، وتتصادى المعاني والإشارات، ظاهرها وغابرها (الغوص).
وفي هذا يبرع مبارك ربيع، تدرك أنه فَعل فِعلَ القدامى، حين جمعوا اللغة من مضانها في البوادي مقتفين آثار القبائل، ونظموها في الرسائل الأولى، حسَبَ المواد والأغراض، ويمكن جرد كثير منه في هذه الرواية. وُجِدت بوفرة المجالسِ المرصودة، والأحاديثِ والحوارت والتداعيات. أهل البياض طيبون، سُذَّجٌ حتى وهم ماكرون ومماحكون، ومتقلبون، وهو ما يستدعي مزيدَ قول وفيضَ بيان، وللشفوية بيانُها يتقنه لَسِنون فيها، ربيع لَمِن أطرب شُداتِها.
حتى ليجذبه الموّال، يدفعه قصدا واستطرادا وما أكثر الاستطراد في هذا العمل، صنو الشفوية إلى جلب الزجليات المغربية المعتّقة (فن الملحون) وأشعار عبد الرحمان بلمجذوب، إما لفائدةٍ مفترضة تُرتجى لباقي السرد، أو قِلادةً على صدره، أو هي فيض خاطر قد يُنبي عن شعور شخصية، كالحال بما يحس به الفقيه لبصير، ولِمَ لا يسبح في نهر غرامه المؤلف نفسه، كأنه لا يُلقي بالا لحدود فنه، أو (يشطح) بين التعابير، حتى لينسى فتح المزدوجات وإغلاقها لما هو تضمين، تحسبه له وهو لغيره، فإن جاء ما له، التبس عليك موقعه، وشيءٌ من قبيله.
14 يتحصّل من هذا أننا، أولا، أمام عمل روائي بذل فيه مؤلفُه جهدا ملحوظا ليزيد من كشف صورة عالم مهمّش، ممتلكٍ لحيويته الخاصة، وزاخرٍ بطقوسيته، متفرّدٍ في لغويته، مثمرٍ وضاجٍّ في آن بلَغْويته، وموشومٍ بضروب عيش ساكنتِه ومُكابداتِها، ما ارتقى بهذه المكونات عنده إلى مضمار عالم روائيٍّ متميز. وهو كشف أتى، ثانيا، من منظور واقعية اعتاد الكاتب اعتمارها، ولا يكاد يفهم أو يخط الرواية إلا بأدواتها ولغاياتها، مهما كلفه ذلك في الطريق، شكلا، وتصوّرا ومضمونا، مما قد يكون مكلفا، ينكص بالواقعية الفنية إلى النزعة الطبيعية، ويعرضها لمنزلق فولكلورية تنجم عن نظرة حسيرة وجزئية للواقع المرصود، وبطريقة رسمه وتمثيله. وهو، ثالثا، عملٌ يدفع إلى التساؤل مجددا عن الكيفية التي يتراوح فيها الواقع (محيطا وبشرا وزمنا) في ذاته، وبين طرز تشخيصه، محاكاته روائيا، في مفهوم المحاكاة، ومنظورتها، ومقارباتها. ولعل أخطر ما في هذا التساؤل هو درجة وعي الكاتب (الوعي النقدي) بالمجال الذي اختار تمثيله، بالشروط والإواليات الأعمق المتحكمة فيه، التي لا يمكن وما ينبغي أن تُنثر، أو تُسرد سطحيا، ولا أن تُبذل بداهة، أو تُبتذل بأي وصف وقول. ذلك أن الرواية إذا كانت أساسا تعبيرا عن مجتمع بعينه، ومرآةَ ناسه وحياتهم، فإنها تُنجَز بكيفية تُظهر هذا المجتمع في حال أزمة وتحوّل، في منعطف ذاتي وموضوعي، يشي بإشكالية ما، وهو ما يتعارض مع سكونية (مجتمع التهميش والحثالة 'لمبن بروليتاريا'، فضلا عن البلاهة). وكذلك الشأن مع كتابتها، عبارتها وأسلوبها، فليست الغنائية أداتها، والشفوية لا جرَم إحدى أدواتها وبعض طبعها تاريخيا، في نهج واقعية تراجعت، وخلفها وعيٌ أكثر جذرية واستنارة. لقد سُميت الرواية (الفرنسية) في نسختها البدئية (القرن 12)بRoman نسبة إلى الشعب الذي كان يتكلم لغة بالإسم ذاته، ولنا أن ننظر بلمح البرق أي تاريخ قطعته الرواية في آداب الشعوب كلها، فنتبين الفرق بين ماضيها وحاضرها، وأي تراث زاخر من جميع المدارس والرؤى والأشكال، ومنها الواقعية في درجة الكتابة والتخييل، التي هي عماد المدارس الروائية مهما شطّ الخيال، وتفنن الصنيع، وفي هذا أخيرا فليتفكّر الروائيون!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.