غاب محمد عابد الجابري (2010) من دون أن يقرأ الكتاب الخامس الذي أصدره جورج طرابيشي في نقد أعماله الفكرية. وربما لو عاش، لما قرأ في أي حال. كرس الحلبي جورج طرابيشي 25 عاما من حياته الغزيرة بالثقافة، وغنى اللغة العربية، ومعرفة اللغات الأخرى، والتعمق في التراث والآداب الأخرى - للرد، أو للحوار مع المفكر المغربي، الذي يقلل من شأن التراث ويحطم أو يتجاهل أعماق اللغة. لم يتنازل الجابري للنقاش أو للحوار. وعندما بلغ التضايق ذروته من رجل يحاول أن يثنيه عن التقليل من أهمية التراث وعظمة اللغة، التفت وقال، إن جورج طرابيشي ليس إلا مسيحيا يتعاطى في أمر ليس أمره. لكن طرابيشي استمر في مسيرة النقد، أو نقد النقد. ولعل أجمل ما قرأت عن ذلك اللانقاش بين مفكر من المغرب ومفكر من المشرق، كتاب صدر للتو بعنوان «معضلة اللغة العربية بين الجابري وطرابيشي» بقلم الدكتور وليد محمود خالص. ومن دون أن يسايرنا بذلك، فلا شك أن الدكتور خالص (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) يطرح نفسه ندا للرجلين لا ناقدا لهما. كم يكون النقد ارتقائيا عندما يكون في مستوى وليد خالص أو جورج طرابيشي والرحمة على الدكتور الجابري، ناقدا ومنتقدا. أتمنى على كل محب للقراءة واللغة والفكر، أن يقرأ «معضلة اللغة العربية». لا يمكنني الذهاب أعمق وأبعد من الأمنية لأن حجم الزاوية مقرر للعناية لا للدراسة. لكنني أستغل الموضوع لأطرح سؤالا طالما طرحته على نفسي: كيف يمكن لمفكر في مستوى جورج طرابيشي أن يكرس 25 عاما من عمر في مثل عمره، علما وثقافة واطلاعا، للكتابة في هاجس واحد. للرجل دراسات كثيرة أخرى، جميعها إثراء منهجي، لحضارة النقد في العالم العربي. وهي حضارة ضئيلة، أعلامها قلائل، وموضوعيتها شبه معدومة. لم يتعد النقد في العالم العربي عصبيات الجاهلية. وقلما انتقل من مدائح العشيرة أو ثاراتها. وفي غالبيته الساحقة كلف به أو تكلف بإغراءاته مسترزقون مساكين ينقلون البندقية من كتف السب إلى كتف المدائح، بمجرد الانتقال من مطبوعة إلى أخرى. مشكلتي مع الدكتور وليد خالص هي هذه: صافحت الجابري مرة واحدة في الرباط، ومرة واحدة صافحت طرابيشي في باريس. وحتى بعد قراءة مؤلفه لم يتغير عندي الميزان. دفة هنا دفة هناك.