من مفارقات الأقدار أن شارع الحبيب بورقيبة الذي شهد يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011 تجمهر عدد هائل من التونسيين، تهيمن عليه الفئة الشبابية، وذلك للإطاحة بنظام لم يشبع توقعاتهم الاقتصادية والحرياتية، هو نفس الشارع - أي شارع الحبيب بورقيبة - الذي أقيمت فيه منذ أيام مسيرة حزينة لمئات من التونسيين حاملين شموعا تعبيرا منهم عن حزنهم على شباب ماتوا غرقا في السواحل الإيطالية ونهش الحوت أجسادهم حتى أنه لم يتم العثور على 79 جثة ولم ينقذ بأعجوبة سوى 57 شابا من مجموع 136 غادروا تونس وكل ما فيها، قاصدين الجهة الأخرى من البحر بحثا عن عمل لم يأت وعن فرصة للحياة قبل أن تنقضي مرحلة الشباب في تجرع اليأس والأبواب الموصدة! إنها مأساة تونسية وإنسانية بكل المقاييس، ومما يزيد في بعدها المأساوي أنها حصلت بعد الثورة الواعدة بالحق في التشغيل والحرية والحياة.. لذلك فإن مذاق حادثة غرق الشباب التونسي في السواحل الإيطالية في إطار الهجرة السرية أكثر فاجعة وقساوة في مرحلة ما بعد الثورة، باعتبار أن العودة إلى اليأس بعد استعادة الشعور بالأمل والتفاؤل ذو انعكاسات نفسية ووجدانية أكثر عمقا في السلبية. طبعا لا شك في أن الثورة كفعل احتجاجي شعبي بلغ ذروته وأطاح بنظام سياسي كامل، ليس بالفعل الذي تنتج عنه نتائج سحرية سريعة ولكن في الوقت نفسه من الضروري أن يتحسس المجتمع بمختلف فئاته أن هناك مرحلة جديدة بعد الثورة تشمل أبعاد الحياة كافة وليس السياسي فقط.. بل إن النخبة السياسية الذكية هي التي تدرك أن الانتظارات اقتصادية قبل كل شيء وأولا وأساسا. إن حادثة الغرق هذه التي أودت بحياة نحو 79 شابا تونسيا تعد مؤشرا مهما من خلاله نقيس الواقع الاجتماعي والاقتصادي. كما تمثل رسالة خطيرة المحتوى إلى الترويكا الحاكمة وكأن الشباب الذين فقدوا حياتهم غرقا يقولون وهم يصارعون أمواج البحر وعمقه إنه لا شيء قد تغير بدليل أن هناك من الشباب الذين نجوا من صرح وهو على فراش الصدمة بأنهم سيعيدون الكرة في أقرب وقت ممكن، وأن خوض مغامرة قد تنتهي بالموت أفضل من حياة بلا أفق وعمل وكرامة مادية. وكي نتمعن أكثر خطورة الحادثة الأخيرة بوصفها صيحة فزع حقيقية لا تشوبها أي مبالغة، من المهم أن نتذكر أنه بعد الأيام والأسابيع الأولى من تاريخ اندلاع الثورة، انتعشت ظاهرة الهجرة السرية وكأن الثورة غفوة حلم سريعة ثم هدأت قليلا حسب الإحصاءات، وتحديدا في فترة ما بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ثم عادت لتتوغل من جديد وتتفاقم معبرة بتزايدها عن مسائل عدة، أولها أن خيار الهجرة السرية بكل ما تحف به من مغامرات وتهديدات، فإنه لا يزال قائم الذات، وهو ما يعني أن النخبة السياسية الحاكمة في الوقت الراهن قد فشلت في خلق بدائل اقتصادية وبث روح الأمل بالغد الواعد اقتصاديا، وهو في حد ذاته فشل مزدوج الدلالة، إذ إن الهموم الاقتصادية هي السبب الرئيسي لثورات دول الربيع العربي، ومن ثم فإن الثورة أو النخبة التي وعدت بتحقيق استحقاقات الثورة فشلت في الاستحقاق الأم والأكبر والأهم: استحقاق الشروع في إشباع طموحات الشباب في العمل وبناء مستقبله. والمؤسف حقا أن هذه الفاجعة التي كان يمكن تداركها أمنيا أو التخفيف من حدتها ومن عدد الشباب المفقود، لم تهتز لها الترويكا كما يجب، من ذلك أن الرئيس المؤقت شارك في مؤتمر خارج تونس ولم يفكر في قطع زيارته والتعامل مع فاجعة غرق 79 من شباب تونس كحدث جلل.. إضافة إلى أن مؤسسة الرئاسة تجاهلت فكرة إعلان الحداد على أرواح الشباب الذي غرق وكأن المصيبة التي حلت ب136 عائلة تونسية ليست بالشأن الذي يعني الترويكا! ولم يخطر ببال الثالوث الحاكم توجيه كلمة إلى شباب تونس وعائلاتها عندما حدثت كارثة موت عشرات من التونسيين رغم أن الرسالة الأولى لهذه الحادثة تهم الترويكا الحاكمة، إضافة إلى كونها تتحمل بعض المسؤولية في ذلك. لقد تعاملت الترويكا مع الحادثة المشار إليها وكأنها ليست مسؤولة عنها وغير معنية بها، وبذلك تكون قد رفضت تسلم الرسالة أو التقاطها رغم أن تاريخ الممارسة السياسية في تونس أظهر أن قراءة رسائل الشعب، وتحديدا الشباب القلب النابض في المجتمع، شر لا بد منه.