بخمسة ملايين دولار يمكنك ان تدمّر «الربيع العربي» ودوله... ذاك لسان حال الذين يقفون وراء فيلم «براءة المسلمين» كما سمّاه مخرجه الإسرائيلي - الأميركي سام بازيل، أو «اليوم العالمي لمحاكمة الرسول» كما سمّاه أقباط أنتجوه في الولاياتالمتحدة. ويروي بازيل أن خمسة ملايين دولار تبرّع بها مئة يهودي كانت كافية لتمويل الفيلم الذي يهاجم «الإسلام لا المسلمين»! ولكن، ما علاقة «الربيع العربي» ودوله بفيلم مسيء الى عقيدة دينية، أُنتِج في دولة عظمى ديموقراطية؟ ليس مبالغة أن يقلق عهد «الاخوان المسلمين» في مصر من احتمال خسارة تفاهماته مع واشنطن تدريجاً إذا تكررت حادثة إنزال العلم الأميركي من على سفارة الولاياتالمتحدة في القاهرة، خلال فورة غضب من الفيلم الذي يسيء إلى المسلمين والدين. ليس مبالغة تخيُّل حجم الخنجر الذي طَعَنَت به ظهر الثورة الليبية، حادثة القنصلية الأميركية في بنغازي، المدينة التي أطلقت شرارة التمرّد على الديكتاتورية، وتعاطَفَ معها الأميركيون وساهموا في إطاحة العقيد. هي المدينة ذاتها التي يقضي فيها سفير الولاياتالمتحدة خنقاً في حريق غضبٍ... من الفيلم. أهي مجرد مصادفة بث شريط الفيلم في ذكرى اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) التي أدمت الأميركيين...؟ وإن كان مقصوداً في الذكرى، فالخبث كله يجتمع في علاقة مريبة بين مخرج إسرائيلي ومئة يهودي، وبعض الأقباط في الولاياتالمتحدة ممن لفظَتْهم الكنيسة القبطية في مصر، وبينهم كما يقال موريس صادق الذي لم ينكر أن له ضلعاً في «اليوم العالمي لمحاكمة الرسول». بديهي أن بين أهداف الفيلم تأليب المسلمين في مصر على أقباطها، وزرع لغم كبير في البلد الذي نجا من أفخاخ كثيرة تلت ثورة 25 يناير، بصرف النظر عن تأييد نهج «الاخوان المسلمين» أو معارضته، أي أن الفيلم المسيء الى الإسلام، يسعى مجدداً إلى تحقيق ما فشل فيه بعض «الفلول» من أنصار النظام المصري السابق. ولكلٍّ من دول «الربيع العربي» فلولها، وعلى طريقتها، فهل هو مجرد تزامن هز المرحلة الانتقالية في اليمن بقنابل «القاعدة» وسياراتها المفخخة، وهز الوحدة الوطنية في مصر مجدداً باحتقان ديني قد يتحول سريعاً طائفياً، إذا انصبّ عليه زيت «الجهاديين» أو من يحاول دفعهم إلى الشارع... وضرب الثقة بربيع ثورة تونس، كلما ارتفعت قبضة السلفيين لتيئيس الحداثيين؟ وإذا كان صحيحاً أن اختناق السفير الأميركي في ليبيا كريس ستيفنز هو حدث يندرج في تداعيات الغضب من إساءة فيلم أميركي الى الدين الإسلامي، فإن استخدام الصواريخ في قصف قنصلية بنغازي لتنفيس هذا الغضب، ليس سوى تعبير عن حجم مأزق الميليشيات الذي يعصف بثورة كلّفت الليبيين عشرات الآلاف من القتلى، لقطف ثمرة حرية تعبير. وهي حرية سلمية بالضرورة، أي خصم للعنف. ليس المقصود بالطبع، أن يحتجّ المسلمون في ليبيا ومصر وغيرهما همساً على فعلة بازيل وموريس، لتفادي إزعاج الأميركيين، أو خسارة وعودهم لبعض دول «الربيع». أما الانزلاق الى فلول الكراهية والحقد المدمّر لما بقي من حوار الحضارات والأديان، بذريعة الدفاع عن الدين، فهو عينه كمن يحرق بيته لكي لا يمكّن لصّاً من سرقته. وفي حقبة سموم الكراهية وطاعونها الذي يغيّب كل ما هو عقلاني لمصلحة الغرائزي، لا يأتي مصادفة تدنيس مسجدٍ في فرنسا أمس، ولا تحذير «القاعدة» مسلمي أميركا من «محرقة». وهل ينخدع أحد بعد، أو يتغافل عن حقيقة «المحرقة» الكبرى التي تستخدم فيها «القاعدة» جميع المسلمين وقوداً؟ ليس فيلم بازيل سوى واحد من أسلحة الدمار الشامل التي تهدد «الربيع العربي» وثوراته ودوله. فالحقد لا يستنبت سوى الحقد، وما دامت الثورة عدالة فأعداؤها جاهزون لإشاعة كل ما يرتد تمييزاً في المنطقة: بين مسلم ومسيحي، بين مسلم وقبطي، وسنّي وشيعي، وسنّي وعلوي، فلا يبقى ملاذ آمن لأحد سوى الانكفاء إلى ما يشبهه ويماثله. إنها أفضل وصفة لإعادة تركيب المجتمعات في مجموعات لن يتفوق فيها إلا ما هو عنصري. أليست تلك حال إسرائيل؟ كأن الهدف أن تكون هي القدوة.