قال المؤرخ اليوناني هيرودوت (أبو التاريخ) مرة: «من ليبيا يأتي الجديد»، ولعل هذا ما ينطبق على نتائج الانتخابات الليبية. فقد كان جلّ المراقبين على قناعة بأن الإسلاميين سيفوزون بالانتخابات على غرار ما جرى في الجارتين اللصيقتين بهذا البلد، تونس ومصر، ولكن للمفارقة جاءت النتائج الأولية - وفقا ل«المفوضية الوطنية العليا للانتخابات» - لتنبئنا بتصدر «تحالف القوى الوطنية» برئاسة الدكتور محمود جبريل النتائج، فيما حلت الأحزاب الاسلامية تالياً. وفي الوقت الذي كانت فيه ليبيا تمر بمرحلة عدم استقرار أمني، وانتشار كثيف للميليشيات الجهوية والأصولية المسلحة، تمكن الليبيون من إجراء انتخابات نزيهة، بل وعبرت نتيجة الانتخابات عن ميل شعبي باتجاه مدني ووحدوي، بعيدا عن الشعارات الدينية المسيسة. صحيح أن هناك من انتخب الإسلاميين تأثراً بشعاراتهم أو لأسباب أيديولوجية ومصلحية، ولكن الأغلبية بدت أكثر قرباً للنموذج المدني الديمقراطي، أو كهذا نأمل من قراءة النتائج. فهل يستمر هذا المشهد المبشر، أم أن لغة السلاح الميليشيوي ستعود الى السطح للوقوف في وجه هذا الخيار الديمقراطي الشعبي الذي سلكه الليبيون؟ حقيقة لا نعرف، فليبيا بلد خرجت للتو من انغلاق سياسي دام عقودا، حيث كانت معرفة العالم الخارجي بما يدور في ليبيا محدودة للغاية، ولذلك فإن لجوء الأكثرية كما يبدو - للتصويت لصالح محمود جبريل بناء على سمعته الطيبة وكفاءته، هو مؤشر على أننا لا نعرف عن ليبيا إلا القليل، ولعل هذا ما يدعو إلى عدم الاستعجال في قراءة المشهد الليبي، أو أي من تجارب الدول التي تعرضت لانتفاضات شعبية. فما بدا على أنه اكتساح هائل لانتخابات «الربيع العربي» من قبل الإسلاميين توقف فجأة في ليبيا، ولهذا تصدى الكتاب والمعلقون لهذه الظاهرة، مبشرين بضرورة أن تؤول الانتخابات في النهاية لغير صالح القوى الدينية المسيسة، ولكن مهلاً. فما قد يبدو اليوم بوصفه هزيمة للتيارات الدينية، قد لا يتكرر في دول أخرى، وحتى التجربة الليبية ذاتها غير محصنة من الانجرار نحو الأسوأ. كل ما يمكننا قوله هو أن أحداث الشهور الستة عشر الماضية، قد أربكت النظرة التقليدية لما يمكن تسميته ب«الأعراف السياسية»، والقياس التاريخي لسلوكيات المجتمعات العربية، وأنظمتها السياسية. أي أننا إزاء مرحلة مضطربة قد تتحقق فيها بعض المخاوف التقليدية، ولكننا قد نشهد ظواهر وتجارب جديدة. في نهاية عام 2004 صدر عن «مجلس الاستخبارات القومي الأميركي» تقرير بعنوان «خريطة العالم المستقبلية 2020»، ويمثل هذا التقرير قراءة للتحولات السياسية العالمية خلال ال15 سنة القادمة، أما أحد محاور هذا المشروع فهو الوضع في منطقة الشرق الأوسط. التقرير توقع أن تزداد نسبة المشاركة السياسية في البلدان العربية بشكل تدريجي، نتيجة للضغوط الداخلية والخارجية، وأن يحقق الإسلاميون نسبة عالية في الانتخابات المستقبلية، تهدد باستبدال بعض الأنظمة العسكرية في المنطقة. وعلى الرغم من كون التقرير قد ناقش باستفاضة سيناريو قيام «خلافة إسلامية»، أو «كونفدرالية لحكومات يحكمها إسلاميون»، إلا أن خبراء التقرير استبعدوا آنذاك حدوث ذلك لأسباب جيوسياسية: مثل النزاعات الحدودية العتيقة، والتوازن الأمني الإقليمي، ونزاع الطاقة العالمي. وكذلك لأسباب منهجية: إذ تختلف الحركات والأحزاب الإسلامية في تجربتها ومنهجها عن بعضها البعض، ويظهر بينها تنافس كبير تقريباً في كل بلد. لعل أهم تنبؤ قدمه التقرير بخصوص مشاركة الإسلاميين في الانتخابات، هو تحول الحركات الإسلامية نحو نزعة أقل راديكالية في المستقبل، وتزايد وسائل تكيفهم مع أنظمة الحكم القائمة سياسياً وتشريعياً. نحن الآن في 2012، وقد سقطت بعض الأنظمة العربية نتيجة لانتفاضات شعبية تم تأييدها من قبل الجيش كما في مصر وتونس، أو عبر التدخل الخارجي كما حدث في ليبيا. كما شهدنا أيضاً تحولاً بارزاً في مواقف - ولا أقول أدبيات - بعض الأحزاب الإسلامية، فحزب النهضة الذي كان يعارض تراث بورقيبة العلماني، أعلن فجأة قبيل انتخابه، أنه لا ينوي تغيير القوانين التي كان يعارضها زهاء ثلاثة عقود. الأمر ذاته حدث في مصر، حيث تخلى حزب الحرية والعدالة - الذراع السياسية للإخوان - عن معارضته لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وهم الذين قضوا أربعة عقود في معارضتها. أيضاً، التيار السلفي في مصر قرر في أغلبيته خوض الانتخابات والقبول بالعملية الديمقراطية، علماً بأنه كان يرفض النموذج الانتخابي الغربي فترة انتهاجه للعنف، ولا يرى حسب فتاويه، الخروج على الحاكم، كما كان الحال عليه فترة المصالحة مع النظام السابق. هل هذه التحولات باقية، أم أنها تعبر عن موقف براغماتي مؤقت أملته الظروف الراهنة؟ البعض يجادل بأن تلك الأحزاب والقيادات لم يكن بوسعها إلا مجاراة «الثورات» لكي تحقق مكاسب انتخابية، ويرى البعض أنه لم يعد بوسعها التراجع عن هذه المواقف مستقبلاً، ولكن هناك من يرى أننا قد نشهد حالة ارتداد أصولي، حالما تمسك تلك الأحزاب والتيارات بمقاليد السلطة، ولن يكون بالوسع ساعتئذ تغييرها بانتخابات جديدة. حقاً، المرحلة التي نمر بها غامضة، فالأحزاب الإسلامية قد تقبل بالعملية الديمقراطية وتتواءم معها، وقد تلجأ لفرض نفسها بالقوة، إذا ما استشعرت أنها قد تخسر مواقع النفوذ الجديدة. لأجل ذلك أعتقد أنه من الضروري، التفريق ما بين الظرفي والبنيوي في قراءة التحولات الأخيرة، لأن الخلط بينهما قد يؤدي إلى استنتاجات متعجلة. خذ على سبيل المثال الانتخابات الليبية، حيث صور البعض فوز «تحالف القوى الوطنية» بوصفه فوزا لليبراليين والعلمانيين على حساب الإسلاميين. ليس بالضرورة، فبحسب بعض المثقفين الليبيين، فإن فوز كتلة جبريل لها أسباب أخرى: أولها، أن محمود جبريل اختار الاستقالة، كما وعد، من المجلس الانتقالي، ولهذا نأى بنفسه عن مساوئ المرحلة الانتقالية، وأصبح بالنسبة للناخب مرشحاً «نظيفا»، أو غير متورط في السلبيات التي صاحبت المرحلة الماضية. ثانياً، «تحالف القوى الوطنية» قد يضم شخصيات ليبرالية أو مؤمنة بالعلمانية، ولكنه أيضاً - تحالف واسع يضم بينه إسلاميين ومستقلين، ولأجل ذلك كان شعاره الوطني والوحدوي جذاباً للناخب. ثالثاً، يمكن النظر إلى محمود جبريل كمرشح توافقي، فمن جهة هو نشأ في بنغازي ويعتبره البعض «الابن البّار» لبنغازي التي أشعلت الانتفاضة، ومن جهة أخرى، فهو ينتمي إلى قبيلة ورفلة الكبيرة في بني وليد غربي ليبيا. بيد أن هناك مؤشرات أخرى لا تقل أهمية، فبحسب ما يذكره بعض المثقفين الليبيين، فإن خسارة الإسلاميين، قد تعود إلى ردة فعل الأكثرية الصامتة من الليبيين، الذين سئموا المظاهر المسلحة خلال الشهور الماضية، ولأجل ذلك خرجوا للتعبير عن رأيهم بزخم انتخابي كبير لصالح الاستقرار الذي يعد به «تحالف القوى الوطنية»، وقد تعزى أيضاً - خسارة الأحزاب الإسلامية لكونها حديثة ك«أحزاب لا جماعات» وغير متمكنة انتخابياً، في بلد حُظرت فيها الأحزاب لأكثر من 60 عاما. أيضاً، شهدت الانتخابات الليبية تصويت جهات أو مناطق على أساس قبلي وجهوي، ففي مصراتة لم يفز «تحالف القوى الوطنية» أو الأحزاب الإسلامية، بل اكتسح المشهد حزب «الاتحاد من اجل الوطن» الذي تتزعمه شخصية محلية. كما ترى، فإن النتائج الأولية للتجربة الليبية لا تخبرنا بالمزيد، فنحن إزاء مخاض عسير، قد تتبدل فيه الأحوال في لحظات. إذ من شأن أي انفلات أمني - مثل اندلاع صراع مسلح بين المليشيات - أن يعصف بالإنجاز الوليد. هناك أيضاً، مخاطر بنيوية تتمثل في الانقسامات المناطقية والجهوية، ففي برقة لا يزال البعض يطالب بالاستقلال الفيدرالي، والرجوع بالبلد إلى ما كان عليه وضعها قبل عام 1963، وهو عام إلغاء الفيدرالية في ليبيا. وهناك قبائل في الجنوب مثل التّبو لها صلات عبر الحدود قد تضررت من علاقتها بالنظام السابق، وتشعر أنها مضطهدة في المرحلة الراهنة. كما يخشى أن تكون هناك تكتلات أخرى من أحزاب مستقلة، قد تحد من تقدم «تحالف القوى الوطنية»، الذي تقول التقارير إنه نال 78 في المائة في العاصمة طرابلس و56 في المائة في بنغازي وتقدم في صبراته. ووسط هذا وذاك.. يبدو الأمل معلقا ما بين مصراته وصبراته، في هذا الاضطراب الذي تشهده المنطقة بأسرها. فهل سيكون الليبيون جديرين بقول اليونانيين: «من ليبيا دائما يأتي الجديد».