اللحظة الراهنة في تاريخ مصر الثورة هي لحظة فاصلة، لا تنفع فيها المواقف المتميعة، ولا المواقع الرمادية! لقد وصلنا الآن إلي لحظة علينا فيها أن نختار بين مرشحين، لا بل بين طريقين متباينين: أحمد شفيق بما أعلنه، وبما يمثله، ومحمد مرسي بما أعلنه وبما يمثله. ومع تقديري الكامل لكلا الرجلين، وإصراري علي اتباع واحترام قواعد المنافسة الديمقراطية التي نبني اليوم قواعدها وتقاليدها في مصر، فإنني أعلن بكل وضوح وكل اقتناع اختياري للفريق أحمد شفيق رئيسا للجمهورية. أقول هذا، وقد كنت معارضا للنظام السابق، ودفعت راضيا ومقتنعا- ثمن ذلك. أقول هذا وأتشرف أنني كنت من بين أولئك الذين بشروا بالثورة المصرية وتنبأوا بها، وكل هذا مكتوب وموثق، كتابة، وصوتا، وصورة. أقول هذا، وقد كنت وهذا مصدر فخر دائم لي أول من رحب (مع حزب الجبهة الديمقراطية الذي تشرفت بالمشاركة في تأسيسه عام 2007) بالدكتور محمد البرادعي وموقفه الشجاع النبيل ضد النظام السابق، وكنت اتمني أن يكون البرادعي هو أول رئيس لمصر بعد الثورة، ولكنه لأسباب خاصة به لم يفعل، ولكني أرجوه أن يظل حاضرا معنا بإخلاصه الوطني، وحسه الديمقراطي، وخبرته العالمية. أقول هذا، وقد أعطيت صوتي في الجولة الأولي للانتخابات الرئاسية لرجل الدولة الفذ السيد عمرو موسي، وكنت أعتقد أنه الشخص الجدير بتوافق الجميع حوله، ولكنه للأسف لم ينجح، ولكنه تقبل النتيجة برجولة وشرف يضافان إلي رصيده الوطني الساطع. لماذا إذن في هذه المرحلة الانتخابية أعطي صوتي لأحمد شفيق؟ قبل أن أقدم اجابتي عن هذا السؤال، يهمني أولا الإشارة إلي مقالين مهمين قرأتهما عن أحمد شفيق، أولهما: المقال القوي والحاسم للدكتورة هدي جمال عبدالناصر (الأهرام 2 يونيو 2012) بعنوان: حتما سانتخب الدولة المدنية، ومقال د. سعد الدين إبراهيم (المبدع كعادته!) في جريدة المصري اليوم (1 يونيو2012) بعنوان: رسائل التصالح والتوافق مع الفريق أحمد شفيق، التي ضمنها نصائح ثمينة ومخلصة للفريق أحمد شفيق، وثقتي كبيرة في أن أحمد شفيق سوف يستوعبها ويستفيد منها. أما أسبابي للدعوة بلا أي تحفظ أو لبس لانتخاب أحمد شفيق رئيسا للجمهورية، فتنبني علي الأسباب الآتية: أولا إن الفريق شفيق لم يصل إلي هذه المرحلة النهائية للانتخابات من خلال آلية سلطوية، أو انقلاب عسكري! الفريق شفيق وصل إلي تلك المرحلة من خلال انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة بشهادة الجميع، وفي وجود مراقبين دوليين ومحليين. انتخابات تنافس فيها ثلاثة عشر مرشحا، حل شفيق فيها في المركز الثاني بأكثر من5.5 مليون صوت. ومن البديهي أن حدثت بعض التجاوزات أو الأخطاء هنا أو هناك، ولكنها لا تنال من مصداقية النتيجة! ومن المؤسف أن يسعي البعض إلي الدعوة للعودة للميدان والتظاهر ضد نتيجة الانتخابات، لا لشيء سوي أنها لم تأت في مصلحتهم! ذلك سلوك مشين ويتناقض مع أبسط قواعد ومفاهيم الديمقراطية! إن روح الديمقراطية ليس هي أن تتقبل النصر، وإنما الأهم أن تتقبل الهزيمة بروح رياضية واثقة بالنفس. ثانيا واتساقا مع ما سبق، فإن الفائز الأكبر في تلك الانتخابات هو الديمقراطية الوليدة في مصر، والتي ينبغي أن نتضافر جميعا لحمايتها ودعمها وتقويتها. إن من حق أي مواطن أن يتظاهر، وأن يعبر عن رأيه بكل الطرق والوسائل، وعلي الدولة الديمقراطية أن توفر له كل وسائل الحماية وآليات توصيل رأيه. ولكن الشيء الذي ينبغي ألا يسمح به (كما هو الحال في كل الديمقراطيات في كل الدنيا!) هو الانقلاب علي الديمقراطية ذاتها. لا مكان في أي مجتمع ديمقراطي لدعوات مناهضة للديمقراطية مثل الدعوات الفاشية والنازية إلا في حدود صارمة يحددها القانون بدقة. وفي هذا السياق، فإن علينا وقد شيدنا (من خلال ثورة عظيمة، روتها دماء ذكية لمئات الشهداء) نظاما ديمقراطيا أن نحترم قواعده، وأن نلتزم بنتائجه. أما أولئك الذين يقبلون الديمقراطية فقط إذا جاءت مواتية لهم، ويرفضونها إذا كانت في غير مصلحتهم، فأولئك لا علاقة لهم بالديمقراطية! ومن السخف أن يرحب الإخوان بالديمقراطية التي أتت لهم بأغلبية ساحقة في مجلسي الشعب والشوري، ثم يرفضوها، لأنها أتت بشفيق مرشحا منافسا لمرشحهم د. محمد مرسي! وحتي يطمئن إخواننا إلي ما أقول، فإنني أحيلهم إلي مقال كتبته في الأهرام (28 ديسمبر2011) بعنوان: الحقبة الإخوانية عقب ظهور نتيجة الانتخابات البرلمانية (التي ألح الإخوان بشدة أن تجري بسرعة، وقبل الدستور!)، وقلت فيه بالنص: إنني لا أشارك الكثيرين انزعاجهم من الصعود الإخواني (والإسلامي بشكل عام) الذي تشهده اليوم الحياة السياسية المصرية، من خلال انتخابات مجلس الشعب، والتي لا يتصور أن تشذ المرحلة الثانية عن اتجاهها العام. فبإيجاز وببساطة شديدة، لا يمكن أن أدعي أنني ليبرالي، وديمقراطي، ولا احترم ولا اتقبل الخيار الذي أراده الشعب! ثالثا الذين يطالبون بتطبيق قانون العزل السياسي علي أحمد شفيق، لماذا لم يطالبوا بذلك قبل الانتخابات؟ ولماذا لم يمتنعوا عن دخولها، باعتبار أنها لا تتم علي نحو قانوني سليم، وأن هناك من المرشحين من لا تنطبق عليه شروط الترشح؟! أم هو السلوك نفسه لتفصيل قوانين علي مقاس أشخاص محددة، ولأهداف محددة، كما حدث بالنسبة للواء عمر سليمان، فتم تفصيل قانون له فاقد للدستورية؟ رابعا الذين يعترضون علي أحمد شفيق، باعتباره منتميا للنظام السابق، أريد أن أسألهم وفق معايير موضوعية، وليست مجرد شعارات لخداع الجماهير! ألم يكن الإخوان المسلمون جزءا من النظام السابق؟ وإلا، فبأي صفة كان لهم ثمانية وثمانون مقعدا بالبرلمان؟ أليست المعارضة السياسية (ذات الشرعية البرلمانية) جزءا من النظام؟ أليس هذا ألف باء السياسة؟ هل وجود حزب المحافظين في بريطانيا في موضع الحكم يضع نواب حزب العمال في البرلمان البريطاني خارج النظام السياسي؟ وهل وجود الحزب الديمقراطي في الحكم في الولاياتالمتحدة يجعل الحزب الجمهوري خارج النظام السياسي؟! يقول الإخوان إنهم كانوا جماعة محظورة، ولكنهم يعلمون جيدا أن ذلك الحظر كان دعائيا وإعلاميا فقط، ولكنهم كانوا موجودين قانونيا وفعليا، وهم يعلمون ذلك. وقد ذكر الفريق شفيق أنهم دخلوا أيضا في مفاوضات مع النظام السابق بشأن برلمان 2010، آخر برلمانات ما قبل الثورة! ولكن الإخوان يريدوننا أن نتذكر فقط أنهم اضطهدوا وسجنوا، وننسي أنهم كانوا شركاء وجزءا من النظام القديم. وفوق ذلك، ألم يكن المجلس الأعلي للقوات المسلحة جزءا من النظام السابق؟ ألم يكن عصام شرف أول رئيس للوزراء بعد الثورة- وكمال الجنزوري رئيس الوزراء الحالي- جزءين من النظام القديم مع بعض وزرائهما؟ خامسا هل يحسب دفع مبارك لشفيق لرئاسة الوزراء، إبان قيام الثورة، له أم عليه؟ ذلك سلوك يلجأ إليه الطغاة الذين تزيحهم شعوبهم، بعد فوات الأوان، أي أن يقدموا وجوها يمكن أن يقبلها الشعب، أملا في امتصاص الثورة! ألم يقدم شاه إيران، عندما أيقن أن الثورة قد شارفت علي النجاح، شخصية إيرانية محترمة لها مكانتها، وهو: شهبور بختيار ليمتص الغضب الثوري؟ ولكن من سوء حظ الشعب الإيراني أن الحكم الديني هناك، الذي احتكر ثمار الثورة، رفض شهبور بختيار، ولاحقه بمحاولات الاغتيال في باريس، وأتي فقط بحكم آيات الله، وحارب بكل عنف القوي الليبرالية والمدنية جميعها. سادسا تبقي أهم الحجج وأغربها في الوقت نفسه، وهو أن انتخاب شفيق (حتي ولو تم بطريقة ديمقراطية كاملة!) يعني انتهاء الثورة وهزيمتها! إلي هذا الحد تمتهن الثورة؟! أي ثورة تلك التي يستطيع أي فرد، أيا كان، أن يجهز عليها بإرادته المنفردة؟ ولماذا؟ الثورة بركان عظيم اجتاح مصر كلها، وقلبها من حال إلي حال أطاح برءوس النظام القديم، وحطم أجهزته البوليسية، وأعاد للشعب زمام أمره، ورسخ حرياته المقدسة في التعبير والاعتراض بكل الوسائل. فأي إنسان ذلك الذي يستطيع إعادة عجلات التاريخ إلي الوراء؟، وأي قوة خارقة يتمتع بها؟، وأي شعبية سوف يستند إليها؟ وأي قوي سوف يستخدمها وتسانده؟ ولماذا؟ وبتفصيل أكثر، هل سوف يأتي شفيق ليحكم مصر مدي الحياة؟، أم أنه سيحكم إذا فاز لمدة يحددها الدستور بالسنة والشهر واليوم؟ هل سوف يحكم شفيق من خلال مؤسسات وهمية تمثيلية، كما كانت في السابق؟، أم أن مصر اليوم فيها مؤسسات دستورية منتخبة وحقيقية، لا شكلية ولا ورقية؟ هل سوف يقوم شفيق بعملية تنويم مغناطيسي للجماهير التي أفاقت، والتي تعودت أن تخرج وتعبر عن نفسها بكل جرأة مصرية؟ هل يمكن أن يمنع شفيق الجماهير من أن تهتف إذا أرادت- الشعب يريد إعدام الفريق مثلما قالت الشعب يريد إعدام المشير؟ سابعا ومع الاحترام والتقدير الكامل لشخص د. محمد مرسي (ومع التغاضي عن افتقاده لخبرات رجل الدولة مثل الفريق شفيق)، إلا أن محمد مرسي يظل مرشحا ليس فقط لحزب الحرية والعدالة، ولكنه أيضا للإخوان المسلمين! الذين هم وفق أيديولوجيتهم الدينية، التي شعارها الإسلام هو الحل، والتي رمزها مصحف وسيفان، وكذلك- وفق تنظيمهم الحديدي الصارم- هم جماعة شمولية تتناقض بالضرورة مع الديمقراطية، وهم أيضا، بحكم سمتهم الطائفية، يتناقضون مع مبدأ المواطنة التي هي عماد الدولة المدنية التي هي بدورها جوهر أي نظام ديمقراطي حقيقي. وأخيرا، فإنني اتمني أن يراجع الكثيرون مواقفهم، وأخص بالذكر هنا الأديب العالمي المرموق علاء الأسواني الذي أسلم تماما بحقه الكامل في أن يعارض شفيق، وأن يرفضه، وكذلك الكاتب الثوري الموهوب د. عبدالحليم قنديل، والذي قال في مقال بديع له أخيرا إنه لن ينتخب شفيق، ولكنه قد ينتخب مرسي علي طريقة أكل الميتة ولحم الجنزير، فلم هذا العناء؟