كم هو ممتع أن نتفيأ ظلال الذاكرة والموروث والعميق والأصيل من الشعر والموسيقى والأدب والتراث الشعبي والشفاهي...، كلما أتخمتنا الكثير من أشكال التسطيح والتفاهة وكلما غطت تربتنا الكثير من مستنقعات الوحل الروحية والفكرية والفنية والسياسية، و نعيد الماء والرونق لزمن عقيم، طافح بكل معاني اليباب، حتى نخفف على أنفسنا من غلواء هذا الزمن المادي، الذي أطلقت عليه الكثير من الأوصاف: زمن حداثي، حضاري، معولم، ديمقراطي..، لكن في ظل هذه الترسانة من التسميات التي تبعث على الأمل والتفاؤل، أقصي وألغي «الإنسان الأعلى»، أو «الإنسان السيد» حسب نيتشه، حيث غدا هذا «المسود» للأسف مجرد رقم في سوق البورصة، وفي ساحات الاقتتال والتفجيرات اليومية، غدا صوتا مطلوبا، يشترى في الأسواق الانتخابية، ورسالة صوتية مربحة لجهات معينة في مسابقات وبرامج استعراضية موسيقية لا قيمة لها...، كما غدا شعارا يرفع في المسيرات الاحتجاجية أو النضالية، بل كائن استهلاكي ومتلق مدجن، يفتقد لكل حس نقدي في سوق الماركات العالمية، وفي الإمبراطوريات الإعلامية الباذخة. في الإعلام، في السياسة، في الفن، في الإنترنت، في الثقافة، ثمة وحوش خفية بلهاء، تدعي العظمة والقوة، الهمّ الوحيد الذي يؤرقها، هو كيف تسوقنا مدجنين إلى زمن التفاهة واليباب، وتقذف بنا كالجرذان المقرفة إلى عمق البقع السوداء، كما يقول كافكا. إننا نعيش فعلا زمن التفاهة، ونقضمها كما نقضم الشيبس والمصبرات والماكدونالد، وكما نشرب المشروبات الغازية، فالمسلسلات المكسيكية التي تقدم للشباب العربي في طبق عربي، بشكل يوهمه بانعدام الحدود بين الثقافتين العربية والمكسيكية بل بلا جدواها، هي مسلسلات جرفت المشاهد العربي إلى دوامة الابتذال والتردي، ومسابقات الغناء التي تطل علينا بين الفينة والأخرى في الإعلام العربي بوجه يخلو من حمرة الخجل، اللهم إسفافا واستهتارا بالذوق العام، غدت الشغل الشاغل للشباب العربي المعبأ للتصويت ودعم «قضيته الأولى»، واختيار مطربه المفضل، أو مطربته المفضلة، برسائل صوتية إثراء لجهات معينة، عوض أن يعبأ للنضال والتفكير في أزماته ومشاكله الداخلية والخارجية. والمطلوب من الجماهير أن تعبأ هي أيضا لاستقبال هذا المطرب أو المطربة بالهتافات والزغاريد، فمن المتوقع أنها «ستحل كل الأزمات الدبلوماسية»، و«كل القضايا العربية العالقة»، لهذا يتم استقبالها أحيانا استقبالا ملكيا، بل يتمادى «الفنانون» المتوجون بعد المسابقات بطلباتهم الخيالية، اقتداء بالمطربة الفلانية التي تتلقى مبالغ كبيرة للقيام بجولة فنية. لن نلومهم، فهم بحاجة إلى ماكياج وسيارة واكسسوارات.. بينما الكاتب والشاعر والمثقف في المغرب، وفي العالم العربي، ما زال يناضل من أجل تغطية صحية، على الأقل حتى يحظى بموت مستور، بعيدا عن التوسل والاستجداء. فلا مجال الآن للحديث عن مثقف لسان عصره ومرآتها، ولا عن "شاعر نبي عصره"، فالمغني ولاعب الكرة هما مرآة هذا المجتمع الاستهلاكي أو «مجتمع الفرجة»، الغارق حتى النخاع في السطحية والإبهاروالإغراء والبريق والبهرجة والاستعراض، أو «صنمية الصورة» حسب بودريار، على حساب ثقافة الجوهر والعمق، مجتمع يشيئ للإنسان ويحط من كرامته، ويحوله إلى «آلات راغبة» تقبل على التلقي والاستهلاك في حالة خدر، وبنهم وشراهة، وفي غياب أية قدرة على النقد أو التفكير. كل شيء أصبح خاضعا لمنطق السوق، ولقانون العرض والطلب، ويشترط فيه التجدد والطراوة، فكما تخضع الأزياء والماكياج والمواد الغذائية لهذا المنطق، فكذلك أصبح الشعر اليوم، كما الكتابة والغناء، يخضعان لهذا المنطق، فغدونا أمام «قصيدة اليومي» و«قصيدة إلكترونية» كما أصبح الأنترنيت ضاجا بأسماء بعض «الشعراء والكتاب الشباب»، ممن لم يتمكنوا من ولوج أبواب النشر في المنابر الإعلامية المكتوبة، فوجدوا في النشر الالكتروني فرصة للشهرة التي طالما حلموا بها، وتوهموا أنهم من الممكن أن يحدثوا رجة في الشعر العربي الحديث، فكان الفضاء الإلكتروني فضاء مواتيا لنفث سموم حقدهم وكراهيتهم، فتحول هذا، بقدرة قادر، إلى آمدي وآخر إلى ابن قتيبة وغيرهما إلى جرجاني.. ليعلنوا عن أشعر الشعراء والشاعرات، ومن يستحق لقب شاعر وشاعرة. بل أحيانا قد تتحول المنابر الإلكترونية والمكتوبة إلى ساحات للاقتتال وتصويب كل سهام التجريح والقدح والتشفي بشكل مقزز، وبشكل ينمي في دواخلنا الحنين إلى زمن السجالات الفكرية والثقافية البناءة والمثمرة التي مضت بلا رجعة. فنجد الشباب العربي وهو المستهدف، جيل «الفيديو كليب» والماكدونالد والأديداس والنايك.. يحطم، في هذه القرية الصغيرة بواسطة جهاز في قبضة اليد، كل الحواجز اللغوية والثقافية، ليصل إلى كل الأصقاع بيسر بالغ، فتضيع كل الحدود الممكنة ويجول العالم في وقت وجيز، في حالة فرار وهروب يومي، بين قنوات فضائية تتناسل كالفطر، بحثا عن سلعة مغرية تشبع نهمه وشراهته الاستهلاكية، وقلما تجده يكمل برنامجا من أوله حتى آخره، وهو في رحلته المكوكية هذه، يحاول قتل ملل ورتابة وتكرار تلف خطابات رسمية، تندلق يوميا من آفواه المنابر السياسية بدبلوماسية، وبابتسامات عريضة، توحي بالثقة وبالقدرة على التغيير، وحل كل المشاكل العالقة، فالكل يرقص بطريقته، ولا فرق بينهم سوى أن هناك من يرقص للإغراء والتحريض على الانحلال، وهناك من يرقص للتضليل والتمويه والكذب على الذقون. وحين ترهقنا السياسة بوعودها المزيفة، والإنترنت ببعض مواقعه التافهة، والثقافة ببعض طفيلياتها، والإعلام ببرامجه وأفلامه وبمبرراته الوهمية «الجمهور يريد هذا»، نلجأ إلى الفن والموسيقى، كي نزيد جرعة من الحياة في عروقنا، ونلغي المسافة بيننا وبين الطبيعة، كما يقول نيتشه، فتطل علينا قنوات موسيقية عربية، تروج لكائنات مفبركة بأغان تحمل كل معاني الإسفاف والتلميحات الجنسية والشبق والإغواء والإغراء، تخلو من كل إبداع أو جمالية وتسطع في سماء الفن أضواء غنائية "مبهرة" ومؤلمة للعيان، لكن سرعان ما يخفت بريقها ليعلن عن موت المغني على غرار «موت المؤلف» لنفاجأ في كل مرة بوجه فني جديد، يخلو من حمرة الخجل أو الحياء، اللهم ماكياج مبهر وعمليات تجميل متكررة، وجوه وأغان أفقدتنا القدرة على الاستمتاع بكل ما هو أصيل وعميق فينا، تشوش على لحظات نستجديها وبصعوبة من يومي متعب، بارد، بما هي لحظات تأمل وعزلة واختلاء بذواتنا. فصناعة النجوم وإشاعة فن مبتذل سياسة تسنها بعض المؤسسات والحكومات لتقويض كل ما هو نبيل وإنساني وراق في حياتنا، وكل ما يجدد أنفاسنا ويطهرها من أدران اليومي والمستهلك، وكل ما يمنحنا القدرة على التأمل والإبداع والنقد والتخييل، والنفاذ إلى جوهر الأشياء وعمقها. للأسف، فالإعلام العربي يكرس التفاهة بكل أشكالها، و يرزح وبشكل مستلب تحت وطأة الإعلام الغربي، لذا فالانفلات من شرنقته يبدو أمرا صعبا بل مستحيلا في ظل «الكونية» التي نعيشها، فهو إعلام يتجه صوب كل ما هو استهلاكي وكل ما يثير الإبهار والإغراء، وله قدرة خارقة على تضليل عقول البشر على حد قول باولو فربر. إعلام تخديري توهيمي، يستولي على المشاهد في حال من الأمان الكاذب، إعلام يكرس للمشاهد المستهلك مبدأ اللذة عوضا عن مبدأ الواقع الذي نادى به علم النفس الفرويدي، بل الأدهى من ذلك أن الإعلام العربي هو كذلك مستهلك نهِم للثقافة الغربية الأميركية والأوربية، ويتم التركيز بالأساس على قيمها الشاذة، وخاصة نموذج العنف الذي تبثه الأفلام أو نموذج الجنس الذي تبثه الأغاني. إن ما نعيشه اليوم هو زمن الغيلة والوحوش الضارية، وحوش ضعيفة تافهة، تلهث وراء «الفياغرا»، كي تستعيد قواها التي خارت وهيبتها وفحولتها التي اضمحلت. ولا أظن أن المرأة في هذا الزمن، زمن اندحار القيم واللا احترام لإنسانيتها وكرامتها، ستساهم في ولادة «السوبرمان» كما يقول نيتشه، بل ستساهم في ولادة كائنات مشوهة ممسوخة، تفتقد لإنسانيتها وفردانيتها، كائنات ستضيع أناها في ظل هذا التلوث والفوضى والتفاهة الفكرية والإعلامية والفنية والسياسية. للأسف، فكثير من رجال الدين منشغلون بإصدار فتاوى على غرار الفتاوي الزمزمية، والتي للأسف يصعب أن تكون حتى مادة للنكتة والضحك في جلساتنا، ومنشغلون أيضا بمنع كتاب أو تطليق كاتب أو كاتبة من زوجها أو تكفيرمبدع، وليس لمسلم _مهما علا كعبه في الإسلام_ على آخر _مهما انحطت به منزلته به_ إلا حق النصيحة والإرشاد كما يقول المفكر النهضوي الشيخ الإمام محمد عبده، والمثقف العربي، ببذلته الرسمية، في «عزلته الذهنية» على حد تعبير تركي الحمد في كتابه "الثقافة العربية في عصر العولمة"، منشغل بأبحاثه وتنظيراته، يتنقل من مؤتمر لآخر، ليوزع الشعارات ويقيم كرنفال الخطابات. وفي الأخير، نشتكي ونبكي ونعلن أن هناك مؤامرة تحاك ضدنا، ومخططا صهيونيا أمريكيا يصوب نحونا نحن العرب، ونعلق تفاهتنا على شجرة العولمة التي عولمت كل شيء حتى التردي، بل نحن، بضعفنا وعجزنا وتردي أذواقنا، من نلهث وراء هذا الوجه البشع للعولمة، ووراء الربح المادي، ولا نسعى للرقي بأذواقنا، والغوص في ذاكرتنا وفي الأصيل والعميق فينا، ولا نجاهد للتمسك بهويتنا، ولو تريثنا قليلا لاكتشفنا وجه العولمة المشرق الذي اكتشفه الآخر بسهولة، والذي غيبناه نحن بجهلنا واستهتارنا وضعفنا.