المتابع لتطورات «الربيع العربي»، لا بد أن يعود إلى الوراء لاستقراء التجارب التي ظهرت خلال هذا الحراك السياسي الاجتماعي، ابتداءً من تونس فمصر والمغرب وليبيا واليمن وسورية، وينظر إلى التجربة المغربية التي نجحت في احتواء الأزمة التي ظهرت منذ بدايتها، إذ قامت المملكة المغربية بإصلاحات لم يسبقها أي دعاية سياسية أو حملات ترويجية، ما أعطاها زخماً لقبول الشعب المغربي لها، وهو انعكاس لفكر القيادة المغربية الشابة وفهمها لحاجات المرحلة المقبلة ومتطلبات الشباب، جنب المغرب التطورات السلبية التي لا تزال تعصف بالكثير من الدول العربية التي تعرضت لحركات «الربيع العربي». يستطيع المراقب أن يحلل التطورات في احتواء الأزمة المغربية ويقسمها إلى ثلاث مراحل، تعتبر المرحلة الأولى هي بداية التحرك الشعبي للمطالبة بالإصلاح وتأسيس ما سُمي بحركة «شباب 20 شباط (فبراير)»، إذ قامت بعدد من الاحتجاجات والمظاهرات السلمية، لتأتي المرحلة الثانية سريعة ومستجيبة، ليس فقط لمطالب حركة «شباب 20 فبراير»، بل لتؤسس لإصلاح شمولي كامل في المغرب، حدده العاهل المغربي في خطاب موجه إلى الشعب، تضمن القيام بتعديلات دستورية تستجيب لأهم مطالب «شباب 20 فبراير»، وارتكز على عدد من الأسس، منها دعم المجالس المحلية (الجهوية) وجعلها موسعة، واستقلال القضاء ومنح الوزير الأول صلاحيات تنفيذية، وتكريس الدستور وتعدد الهوية المغربية، وترسيخ دولة المؤسسات، وتوسيع الحريات، وانتخابات برلمانية حرة ونزيهة، وحكومة تنفيذية منتخبة منبثقة عن الإرادة الشعبية، يرأسها وزير أول من الحزب السياسي الفائز بالانتخابات، وتتمتع بسلطة تنفيذية فعلية، وتتحمل المسؤولية الكاملة، وكذلك تكريس الفصل بين السلطات الثلاث «القضائية والتشريعية والتنفيذية»، إضافة إلى الحريات الفردية والجماعية. أما المرحلة الثالثة فهي انجاز الدستور وعرضه على الاستفتاء ومن ثم إجراء الانتخابات، إذ تم الانتهاء من التصويت على التعديلات الدستورية مساء الجمعة «1 حزيران (يونيو) 2011»، بمشاركة ما نسبته نحو 60 في المئة ممن يحق لهم التصويت، وتمت الموافقة على التعديلات بقبول 98,49 في المئة من الناخبين عليها. وفي أعقاب الاستفتاء، جرت انتخابات برلمانية باكرة في «25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011»، إذ كانت مُبرمجة لسنة 2012، وتم تأجيلها مرة من «7 تشرين الأول (أكتوبر) 2011»، وقد فاز مجلس النواب ب395 مقعداً، إذ تم انتخاب 305 منهم عبر قوائم حزبية في 92 دائرة انتخابية موزعة على دوائر المملكة المغربية كافة، وانتخاب 90 مقعداً إضافياً من لائحة وطنية، ثلثان منها مخصصة للنساء، والثلث الباقي محفوظ للرجال الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً، وجاءت النتائج يوم «27 نوفمبر 2011»، وفاز حزب العدالة والتنمية ب 107 مقاعد، ما يؤهله لأكبر تمثيل برلماني، على رغم أنهم لا يشكلون الغالبية المطلقة، ولكن وفقاً للدستور الجديد، فهذا الفوز يجعل زعيمه عبد الإله بنكيران، رئيس الوزراء المكلف. كما أن المدة التي قامت بها الحكومة المغربية بالاستجابة لمطالب الشارع، كانت قياسية، مقارنة باستجابة الحكومات العربية الأخرى التي تعرضت للربيع العربي، إذ حدد العاهل المغربي مدة ثلاثة أشهر لتنفيذ الإصلاحات التي أمر بها، بعد عرضها على استفتاء شعبي، وهي مدة مقبولة جداً، وكانت عامل احتواء، وتنم عن صدق توجه الحكومة المغربية للإصلاح، وهي إجراءات تنم عن شجاعة وقوة القيادة المغربية، قادت إلى إصلاحات دستورية وتنظيم انتخابات تشريعية شفافة جداً، بحيث لم يشكك في نتيجتها أحد، أدت إلى تشكيل حكومة تعهدت بالقيام بواجباتها التي انتخبها الشعب على أساسها، ومن أهمها محاربة الفساد والرشوة، وسيادة القانون، ما جعل المغرب منطقة جاذبة للاستثمارات الأجنبية التي يكون الاستقرار السياسي عاملاً جاذباً لها، والمغرب بحاجة ماسة لها. يرى الكثير من المحللين والمراقبين أن المغرب بسرعة استجابته للمطالب الشعبية، والبدء في إجراءاته الإصلاحية مباشرة، قد تعدى مرحلة المخاض العسير في التحول الديموقراطي، إذ ذكر تقرير للمكتب الدولي للدراسات والخبرة الاقتصادية (مجموعة أكسفورد للأعمال) لسنة 2012 حول المغرب، «أن الإصلاحات التي شرع المغرب في إرسائها خلال عام 2011 كرست وضع المملكة كملاذ للاستقرار السياسي بالمنطقة، وخلقت مناخاً يطبعه السلم والهدوء، في وقت تعيش فيه دول عدة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا على وتيرة مضطربة، وأن الدستور الجديد، الذي أقره الشعب المغربي في تموز (يوليو) 2011 يعزز صلاحيات رئيس الحكومة وأيضاً البرلمان، وأن القانون الأساسي الجديد يقر في ديباجته أن المغرب بلد اختار على نحو لا رجعة فيه بناء دولة دستورية ديموقراطية». الإصلاحات المغربية التي تم إنجازها، لم تأتِ من فراغ، فقد سبقتها إصلاحات واسعة أدت إلى تعزيز الحريات الفردية والاجتماعية بالبلاد خلال الأعوام العشرة الأخيرة، لكن استشعار القيادة المغربية الشابة للمشكلة ورؤيتها الواضحة وبُعد نظرها، أدى إلى استثمار الوقت، والتسريع في الإجراءات، وعدم الاستكانة إلى البيروقراطية في تنفيذ مطالب الشارع المغربي في الحرية والديموقراطية في اختيار حكومة يستطيع محاسبتها من خلال صناديق الانتخابات، فلو تأخرت القيادة المغربية في الاستجابة لارتفع سقف المطالب الشعبية إلى حد يصعب التكهن بمستواه. لقد كانت التجربة المغربية في سرعة تنفيذ الإصلاحات نموذجاً ناجحاً، مقارنة بتجارب عربية أخرى، كان عامل الوقت حاسماً، لو استثمر بالشكل الصحيح، فبعض القيادات العربية التي تعرضت للربيع العربي ماطلت في الإصلاحات، من خلال الوعود الفارغة واللعب بالوقت، متحججة تارة بعدم التسرع، وتارة بوجود عملاء ومسلحين، علماً بأن المطالب الإصلاحية في بداية أي حراك عربي لم يكن سقفها مرتفعاً للمطالبة بتغيير الأنظمة، لكن عدم الرغبة الحقيقية في الإصلاح، وعدم وجود رؤية واضحة وبُعد نظر لدى بعض القيادات، أدى إلى ما آلت إليه الأمور في الكثير من الدول العربية، وبعضها لا يزال يعاني كسورية مثلاً، ونسيت قيادات تلك الدول أن من يستجب بسرعة لنبض الشارع فسوف ينجح ويجنب بلده ويلات الحروب وعدم الاستقرار.