أسفرت انتخابات مجلس النواب المغربي في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني2011 (1) عن تصدر "حزب العدالة والتنمية" قائمة النتائج؛ حيث حصل على 107 مقاعد من أصل 395 المكوِّنة للعدد الإجمالي لأعضاء الغرفة الأولى بحسب أحكام الدستور المغربي الجديد [2011] (2). والحقيقة أن قادة الحزب لم يترددوا، في خضمِّ الحملة الانتخابية، في الدفاع عن اقتناعهم بأنهم سيحصدون أكبر عدد من المقاعد مقارنة بالأحزاب المتنافسة الأخرى، وإن لم يتوقعوا أن يصل العدد عتبة المائة، وهو ما شكَّل مفاجأة لهم وللطبقة السياسية المغربية، التي دأبت على ألا تتجاوز القوة الفائزة الأولى خلال الانتخابات التشريعية السابقة 17% في أحسن الأحوال (3). ومع ذلك، لابد من التنبُّه إلى أن الحزب الذي حسم اختيار المشاركة السياسية ضمن المؤسسات ووفق مستلزمات الشرعية القانونية منذ 1998 (4)، لم يُخف تطلعاته لأن يصبح فاعلاً سياسيًا أساسيًا ومؤثرًا في الحياة الحزبية والسياسية المغربية، وهو ما أكدته نتائج مشاركته في انتخابات 7سبتمبر/أيلول 2002 التشريعية، حين فاز بالرتبة الثالثة من حيث المقاعد (5)، وأيضًا اقتراع 27سبتمبر/أيلول 2007، على الرغم من تراجعه النسبي جرّاء ما خلّفته الأحداث "الإرهابية" في السادس عشر من مايو/أيار2003 في الدارالبيضاء من تأثيرات سلبية على شعبيته (6). السياق الجديد: الحراك الديمقراطي لم يكن حدثُ رئاسة "حزب العدالة والتنمية" للحكومة متغيرًا جديدًا أو مفاجئًا لقادته ومناضليه؛ إذ منذ انعقاد مؤتمره الأخير [صيف 2008]، بات واضحًا أنه يتطلع إلى المشاركة في العمل الحكومي، وقد أسعفه في ذلك التعديل الدستوري الأخير [فاتح يوليو/تموز2011]، الذي أقرّ بأن يتولى الحزب صاحب الأغلبية في انتخابات مجلس النواب رئاسة الحكومة. بيد أن السياق الوطني والإقليمي والدولي الذي زامن هذه الحكومة ينطوي على أكثر من متغير، سيكون له دون شك الأثر الواضح، وربما الفاصل، في مسيرة هذا الحزب وآفاق تطوره إيجابًا أو سلبًا. فمن جهة، يقود الحزب ائتلافًا حكوميًا من أربعة أحزاب (7)، تتباعد إلى حد ما في المنحدرات التاريخية والأبعاد الاجتماعية والأيديولوجية، هي تحديدًا: حزب الاستقلال، ذو الحمولة التاريخية والوطنية، والنزعة التقليدية المحافظة، والحركة الشعبية، التي أُسِّست على خلفية الدفاع عن الأمازيغية والعالم القروي؛ وحزب التقدم والاشتراكية، سليل الحزب الشيوعي المغربي. لذلك، يجد حزب العدالة والتنمية نفسه ملزمًا بالبحث عن أرضية مشتركة بين هذه الأطراف المتباينة؛ فهو وإن استطاع التوافق مع شركائه في تشكيل الحكومة، بما فيها توزيع الحقائب الوزارية، وتقديم البرنامج الحكومي ونيل المصادقة البرلمانية عليه، فإنه مطالب بالاستمرار في تطوير عمله إلى جانبهم، لاسيما أن المقتضيات الجديدة للدستور تشدد على المسئولية الجماعية والمتضامنة للفريق الحكومي. كما أن الحزب ملزم، من جهة ثانية، وفق أحكام الدستور بقيادة الحكومة في تناغم وتطابق مع الاختصاصات التي منحها الدستور للملك، سواء تعلق الأمر بتلك المسنَدة إليه بحسبه رئيسًا للمجلس الوزاري، أو التي يتولاها باعتباره قيِّمًا وساهرًا على استمرار الدولة واستقرار المؤسسات، أو الصلاحيات التي أوكلها إياه الدستور في علاقته بباقي المؤسسات [البرلمان والقضاء]. لذلك، يُعتبر هذا المعطى [ تعدُّد الفاعلين والشركاء] مُحدِّدًا مؤثرًا على قُدرته في الذهاب بعيدًا في تجسيد إستراتيجيته في سياسات عامة حكومية بمعنى أنه ملزم باحترام وثيقة الدستور، والإنصات والتعاون مع حلفائه من أجل تنفيذ البرنامج الحكومي المشترك على صعيد الواقع. تُضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه أعلاه متغيرات أخرى ذات أهمية وازنة في رسم معالم تطور تجربة حزب العدالة والتنمية، مثل ما يتعلق أساسًا بحظوظ وحدود نجاحه في الاستجابة لمطالب قوى الحراك الاجتماعي في المغرب، في سياق الحراك العربي وفواعله بشكل عام. فمما لا يختلف حوله اثنان أن الدينامية الجديدة للإصلاح في المغرب [الدستور الجديد والانتخابات التشريعية] شكّل الحراك العربي أحد أقوى مصادرها، على الأقل من حيث التسريع بوتيرة التفكير في استباق الأحداث والعمل على تجاوزها إيجابيًا. لذلك، سيتوقف مستقبل "الإسلاميين" على مدى قدرتهم على تحقيق إنجازات ملموسة في القضايا التي شكلت مُسبِّبات انطلاق الحراك الاجتماعي، وفي صدارتها توسيع دائرة الحريات والمشاركة الديمقراطية، والحدِّ من الاختلالات الاجتماعية. يُذكر أن المغرب لم يشذّ عن المنطقة العربية من حيث حاجته الماسّة إلى تعميق دمقرطة المؤسسات وتقليص حجم الفجوة الاجتماعية. فقد تبيّن أن الإصلاحات الدستورية والسياسية التي أقدم عليها المغرب خلال تسعينيات القرن الماضي [1992، 1996]، وسعى إلى تطويرها خلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة، ما زالت في حاجة إلى قوة دفع جريئة وعميقة، لتجعل نتائجَها قادرةً على إحداث التغيير اللازم لدَمقرطة الثقافة السياسية الناظِمة لمؤسسات الدولة ونسيج المجتمع. والحقيقة، أن إحدى النقاط المفصلية في البرنامج الانتخابي للإسلاميين، والرهانات التي تنتظرها شرائح واسعة من المواطنين، أن يتميز الإسلاميون عن غيرهم من الأحزاب بالوصول إلى نتائج واضحة فيما يتعلق بقضية تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، وإعادة الاعتبار لهيبة الدولة في صيانة المال العام، والمحافظة على حُسن تدبيره وإنفاقه. بل إن البرنامج الحكومي نفسه، واستنادًا إلى روح الدستور الجديد (8)، أوْلى أهميةً خاصةً لموضوع الحكامة الجيدة ومستلزمات تحقيقها؛ فعلى هذه الأولوية بالذات يتوقف مدى نجاح الحزب من عدمه؛ حيث يستطيع "الإسلاميون" -إن هم سجلوا اختراقات في مضمار خلخلة المجموعات المستفيدة من اقتصاد الريع، وإصدار قوانين ووضع آليات عملية تحدُّ من نفوذهم، وتُعيد للمال العام قُدسيته واعتبارَه- توكيد موقعهم القيادي الوطني. وقد شرع بعض وزرائهم في تدشين هذا الطريق بنشر قوائم المستفيدين منذ عقود أو سنوات من مأذونيات ورُخص النقل العمومي بكل أنواعه، كما أن نشر لوائح الجمعيات المستفيدة من الدعم ستتلو هذا الإجراء في قادم الأيام، بحسب تصريح الوزير المكلَّف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني (9). تكمن القيمة الإستراتيجية لأية خطوة في اتجاه الحدِّ من الفساد ومحاربة اقتصاد الريع في كونها ستعضِّد موقع "حزب العدالة والتنمية" في الخريطة السياسية والحزبية المغربية، وستوسع قاعدته الاجتماعية، وستُعظِّم، بالنتيجة، قوتَه التنظيمية والسياسية. ولعلَّ النسبة المرتفعة التي صوَّتت لصالحه في الانتخابات التشريعية الأخيرة تُراهن عليه، بعدما شكَّكت في قدرة الأحزاب الأخرى، بكل ألوانها وأطيافها، على إنجاز مهمة تخليق الحياة العامة والحدِّ من آفة الفساد. ثم إن "حركة 20 فبراير" (10)، التي أعطت زخمًا قويًا للحراك الاجتماعي المغربي، وما زالت مستمرةً في التظاهر بين الفينة والأخرى، بعدما قاطعت التصويت على الدستور والمشاركة في انتخاب مجلس النواب في 25نوفمبر/تشرين الثاني 2011، ستجد في "حزب العدالة والتنمية"، إن حالفه النجاح في هذا الملف، محاوِرًا ذا صِدقية، مقارنة مع باقي الفاعلين السياسيين الآخرين، سواء من داخل الأغلبية أو من قلب المعارضة نفسِها. حدود الإصلاح وحظوظه تُعتبر الدعوةُ إلى الإصلاح العلامةَ الفارقة لما قبل تأسيس حزب العدالة والتنمية وما بعده، بل إن فكرة الإصلاح، وتحديدًا التطلع إلى الإصلاح من داخل المؤسسات القائمة والثوابت الناظِمة لها، هي الروح المولِّدة لمنعطف انتقال فئة من الإسلاميين المغاربة من جمعية دعوية [حركة الإصلاح والتجديد] (11)، إلى حزب سياسي مدني بمرجعية إسلامية. وجاء اختبار الحزب لقدرته على إعمال فلسفة الإصلاح كما عبرت عنها وثائقه التأسيسية ومؤتمراته المنتظِمة، في السعى إلى تعميق توجهه الإصلاحي بالممارسة عبر المشاركة في ثلاث ولايات تشريعية [1997، 2002، 2007]، ومن خلال تواجده في المجالس البلدية والمحلية وقيادته لبعضها. ولئن بقي الحزب خارج العمل الحكومي لأسباب موضوعية خاصة بتطور النسق السياسي المغربي، وذاتية مرتبطة بنضج تطلعاته كحزب، فقد ظل في تماس دائم مع الحكومات المتعاقبة منذ 1998، إما ممارسًا المساندة النقدية، كما حصل خلال حكومة "عبد الرحمن اليوسفي" [19982002]، أو منتسبًا إلى المعارضة البرلمانية [20022011]، مستثمرًا الوسائل والآليات التي تتيحها الوثيقة الدستورية، وفي صدارتها العمل داخل المؤسسة التشريعية، أو من خلال أنشطته الحزبية ومنابره الصحفية والإعلامية. ويعتبر البرنامج الانتخابي لاقتراع 25نوفمبر/تشرين الثاني 2011 لحظةً قويةً لتجديد حزب العدالة والتنمية دعوته إلى الإصلاح، لاسيما وأن سياق الحراك العربي الذي انطلق من تونس في 17ديسمبر/كانون الأول2010 ، وامتد، بدرجات متفاوتة، إلى سبع عشرة دولة عربية، ومنها المغرب، كان محرِّضًا على المطالبة بتغييرات نوعية في السلطة ومصادر توزيع الثروة. لذلك، يمكن القول: إن الحزب اقتنص هذه اللحظة السياسية لإعادة تأكيد قدرته على إدخال الإصلاحات البنيوية التي تتوق إليها قطاعات واسعة من المجتمع المغربي. والأكثر من ذلك، جهدَ من أجل تسويق شعار "الإصلاح في إطار الاستقرار" أي الدعوة إلى إصلاح الممارسة السياسية دون صدمات، أو تغييرات هيكلية كبرى من شأنها تعريض البلاد لرجات واهتزازات اجتماعية لا يُعرف مدى تطورها على وجه اليقين. ونميل إلى الظن، في غياب دراسات ميدانية عن السلوك التصويتي للجسم الانتخابي خلال الاقتراع الأخير، أن تجاوبًا واضحًا مع هذا الشعار عبَّرت عنه شرائح مهمة من المشاركين في انتخابات 25نوفمبر/تشرين الثاني 2011، بما فيها التي لا تُقاسِم الحزبَ مبادئه الأيديولوجية وقناعاته الفكرية والسياسية. قد نُفسر ذلك بالتخوف من المستقبل، والميل إلى الرهان على حزب العدالة والتنمية في قيادة المرحلة التي تُزامن الحراك العربي وتُعايش أحداثه، كما قد نوعِز هذا التجاوز الإيجابي إلى اقتناع أكيد للجسم الانتخابي بأن المرحلة الراهنة هي بامتياز مرحلة حزب العدالة والتنمية، وليس بمقدرة سواه من الأحزاب، وقد تآكلت في العموم مشروعيتها، تحقيق شعار "الإصلاح في إطار الاستقرار". ليس من السهل الحكم على مستقبل أداء الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، في شخص زعيمه السيد عبد الإله بنكيران، فهي لم تستكمل بعد يومها المائة لتقييم أدائها كما هو مألوف في النظم الديمقراطية. ولكن بالمستطاع تبيان الحدود التي تتحكم في إرادة "الإسلاميين" وهم يرومون الارتقاء بفكرة الإصلاح وصياغتها في سياسات عمومية قابلة للتنفيذ على صعيد الممارسة، كما بمقدرة المتابع للشأن السياسي المغربي استشراف الحظوظ الدنيا التي ترتسم أمام هذه الحكومة على صعيد الواقع وتوقعات الإنجاز. على صعيد الحدود، ثمة مصادر ثلاثة لابد من التنبّه إليها لمعرفة الإمكانيات المتاحة للحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وهي في عمقها حدود ذات طبيعة دستورية، مؤسساتية، وأخرى ذات صلة بالسياق المغربي، وصنف ثالث مرتبط بالظرفية الاقتصادية والمالية الإقليمية والدولية؛ فحكومة السيد عبد الإله بنكيران تشتغل في علاقة تلازمية مع المؤسسة الملكية، بكل ما أتاح الدستور لهذه الأخيرة من صلاحيات واختصاصات مقررة وإستراتيجية، كما أنها ملزمة بالإنصات والتنسيق والتعاون مع حلفائها، ما يعني أن قدرتها على الذهاب عميقًا في الإصلاحات رهين بهذين الفاعلين الأساسيين، أي الملك والأحزاب أطراف التحالف الحكومي. صحيح أن الدستور الجديد وسَّع دائرة عمل الحكومة وأناط بها صلاحيات مهمة في مجال صياغة السياسات العمومية وتنفيذها وتتبُّع آثارها، وصحيح كذلك أن الإرادة الملكية واضحة في مضمار مواصلة الإصلاحات وتعميقها، غير أن الحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية تبقى مرتَهنةً إلى حدّ كبير بمكونات النسق السياسي المغربي، وبمدى فعالية تكاتف جهودها من أجل تسريع وتيرة الإصلاح وتعزيز آلياته وتعميق مكاسبه. والواقع أن أطراف النسق السياسي المغربي، وإن شددت في خطبها على ضرورة الاستمرار في الإصلاحات، وأعلنت عن إرادتها في صون مسيرته، فإن ثمة مقاومات، وهو أمر طبيعي في كل المجتمعات التوّاقة إلى الانتقال إلى وضع أفضل، ستسعى إلى الحدِّ من إيقاع مشروع الإصلاح، وتعريضه إلى كبوات وربما إخفاقات؛ فحصيلة الاختلالات المتراكمة على مدى خمسة عقود واضحة في المغرب، وتحتاج إلى نَفَس إصلاحي جماعي، منتظِم، صبور، ومتدرج في الزمن؛ لذا، يشكِّل توسيع دائرة بناء التأييد حول قضية الإصلاح أولويةً إستراتيجيةً، لتشمل كل الأطراف المعنية بهذا المشروع، بغضّ النظر عن الاختلافات الأيديولوجية والسياسية. إن الأرضية المشتركة المطلوب تسويقها والتوافق حولها تكمن في إقناع المترددين والمنافحين لفكرة الإصلاح بأن مصلحتهم أولاً وأخيرًا تتوقَّف على ضمان الاستقرار، وصيانته، وتوفير شروط العبور السَّلِس إلى مرحلة تقطع مع مصادر التوتر السياسي والاجتماعي الذي عمَّ البلاد العربية، ومنها المغرب. والحال أن حزب العدالة والتنمية ما انفكَّ، منذ فوزه في الانتخابات التشريعية الأخيرة، يفتح جسورَ التواصل مع كل القطاعات وجماعات المصالح التي يعي أهميةَ دورها في إنجاح تجربته الإصلاحية، سواء داخل أوساط الاقتصاد والمال والشغل [منظمات أرباب العمل، وجمعيات المستثمرين، والنقابات والروابط المهنية]، أو في علاقته بالقطاعات الوازِنة من أجل بناء الثقة في قدرة الحزب على إنجاح سيرورة الإصلاح. إنها عملية حوارية شاقة ومعقدة، تتطلب ذكاءً وصبرًا كبيرين لتعطي نتائجها الإيجابية والفعالة. إلى جانب هذين المصدرين، ثمة مصدر ثالث سيحُدُّ من أداء حكومة حزب العدالة والتنمية ويرهن إرادته في تحويل مشروعه الإصلاحي إلى سياسات عمومية قابلة للتنفيذ، ومفتوحة، بالتالي، على نتائج من شأنها تمتين موقعه في الخريطة السياسية والحزبية المغربية. إنه مشكِل تمويل الجهود الإصلاحية التي تضمنها برنامجه الانتخابي، وتمت ترجمتها إلى حد كبير في البرنامج الحكومي المصادق عليه من قبل البرلمان نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2012. فمن الواضح أن انتقال الإسلاميين إلى ممارسة السلطة عير قيادة العمل الحكومي تزامن مع ظرفية إقليمية ودولية موسومة بالأزمة المالية والانكماش الاقتصادي. لذلك، لاحظنا تراجعًا واضحًا في توقعات حزب العدالة والتنمية وهو يتحدث عن النمو الاقتصادي الذي تروم حكومته تحقيقه. فمن نسبة سبعة في المائة التي سوَّقها خطابه الانتخابي كسقف أعلى منتظر، شرع في التشديد على أن معدل النمو المزمع إدراكه سيتراوح ما بين 2,5% و5%، ولا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الظرفية الاقتصادية والمالية الصعبة ستسمح بتحقيق هذه النسبة. ومع ذلك، يتضمن برنامج الحزب وتصريحات قادته من داخل الحكومة وخارجها رهانات من شأنها تنويع وتعظيم فرص انسياب رؤوس الأموال والاستثمار إلى المغرب، من قبيل "التمويلات الإسلامية"، على الرغم من النتائج غير الفعالة التي أسفر عنها هذا النمط من التمويل في دول عربية أخرى [مصر، مثلاً]، وأيضًا الادخارات التي يراهن الحزب على جنيها من تخليق الحياة العامة، وترشيد الإنفاق العام، ومحاربة الفساد واقتصاد الريع. المستقبل: تفكيك تحالف السلطة والثروة تنطوي المعطيات المعالجَة أعلاه على مفارقة دقيقة بالنسبة لمستقبل حزب العدالة والتنمية وآفاق تطور تجربته السياسية والتنظيمية. فمن جهة، لمسَت قطاعات مهمة من المجتمع المغربي في فوزه إمكانيات وفرصًا مفتوحة على الإصلاح، بسبب أنه حزب حديث النشأة [1998]، على الرغم من تشديد قادته على أنه سليل الحركة الوطنية، وأن شرعيته تنهل من تاريخ الكفاح من أجل الاستقلال. وعلاوة على حداثته، ظل سجله النضالي شبه أبيض، لم تنل منه إخفاقات بناء الدولة المغربية الحديثة؛ حيث ظل بعيدًا عن مثالب السلطة ووزر ممارستها، كما حدث لمجمل الأحزاب السياسية المغربية، القديمة منها والحديثة. يُضاف إلى ذلك أن بروز الحزب وتعاظم قاعدته الشعبية، تزامنتا مع ما يمكن أن نسميه "الزمن السياسي للإسلاميين"، وهي دورة تاريخية تشترك فيها عموم البلاد العربية؛ حيث هناك طلب متزايد على هذا النمط من الخطاب التواق إلى ممارسة السلطة بلُبوسات إسلامية، بعدما تراجعت الخطابات السياسية المتناظرة معها، كما هو حال القومية، والاشتراكية، والليبرالية، والعلمانية، والحداثية. بيد أن "الإسلاميين"، وهذا هو الوجه الثاني من المفارقة، يفتقدون الإمكانيات المالية والاقتصادية، وتعوزهم الخبرة المؤسساتية، وتقاليد تدبير الشأن العام، التي تمكِّنهم من ولوج أبواب النجاح في تجربتهم الحكومية. ناهيك عن القلق المتزايد للمواطنين ورغبتهم في أن يلمسوا بسرعة نتائج حكم الإسلاميين وتغير أوضاعَهم نحو الأفضل، في ميادين الشغل والصحة والتعليم، وما يمكِّنهم من العيش الكريم. إن المستقبل سيكون صعبًا بالنسبة لتجربة حزب العدالة والتنمية من هذه الزاوية بالذات، أي أفق النجاح في الإنجاز ، وتجنُّب الكبوات، والإخفاقات التي قد تُضعف مكانتهم وتعرضُهم لما يمكن تسميته "الترهُّل السياسي"، والسلطة، كما هو معروف، تساهم في الترهُّل وتنمي شروطه. فإذا كانت المقارنة بين تجربة الاشتراكيين المغاربة في السلطة [حزب الاتحاد الاشتراكي على وجه الخصوص] ونظرائهم في حزب العدالة والتنمية لا تنطوي على كل العناصر المطلوبة لصحة إقامتها، فإنها تساعد على الأقل على استخلاص العبر والدروس. فقد دخل الاشتراكيون المغاربة مقامَ السلطة بعد أن ظلوا قرابة أربعين سنة خارجها [1960، 1998]، غير أنهم خرجوا منها بعد ممارستها عقدًا من الزمن ونيّف [1998 -2011]، أكثر ترهّلاً وانشقاقًا وتراجعًا على صعيد قوتهم السياسية والتنظيمية. ومع ذلك، ففي السياسة كالفلاحة التفاؤل واجب، ثم إن حزب العدالة والتنمية وعدَ المصوتين له أن يبقى صريحًا معهم، وفيًا للالتزامات التي قطعها على نفسه وأدى القسم من أجلها. لذلك ننتظر المستقبل للحكم على تجربة، إن نجحت في تفكيك تحالف السلطة والثروة ولو بالتدريج، ستفتح الباب واسعًا لحياة سياسية جديدة في المغرب الأقصى، وربما لعموم البلاد العربية، بل وستدفع الفكر السياسي دفعًا لإعادة النظر في أطروحاته حيال قدرة الإسلاميين على تدبير الشأن العام باقتدار. *أستاذ العلوم السياسية - مدير مختبر الدراسات الدستورية والسياسية - جامعة مراكش-المغرب مراجع 1- تمثل انتخابات 25نوفمبر/تشرين الثاني 2011 التاسعة من نوعها منذ الاستقلال؛ حيث سبقتها الانتخابات التالية: 1963 -1970 -1977- 1984 -1993 -1997 -2002 -2007. 2- المقصود الدستور المُوافَق عليها في استفتاء فاتح يوليو/تموز 2011. [يمكن الإشارة إلى التمييز بين القائمة الوطنية والباقي]. 3- فمثلاً حصل حزب الاستقلال، وهو القوة الأولى في انتخابات 27سبتمبر/ أيلول 2007 على 52 مقعدًا من أصل 325 المكونة لمجلس النواب المغربي. 4- نقصد التغييرات الجوهرية التي أدخلها قادة الحزب على تفكيرهم وتوجهاتهم وفي صدارتها علاقتهم بالمؤسسة الملكية والثوابت الناظِمة للعمل السياسي والمدني، وقد أفضت هذه التغييرات إلى انتقال "الإسلاميين" من النشاط الدعوي إلى العمل السياسي المنظم في إطار حزب مدني ذي مرجعية إسلامية، أي "حزب العدالة والتنمية"، وهو ما قادهم قبل هذا التاريخ بقليل إلى المشاركة في انتخابات 1997 كمستقلين حيث فازوا بأربعة عشر مقعدًا ومستشار في الغرفة البرلمانية الثانية. 5- فاز حزب العدالة والتنمية ب 42 مقعدًا من أصل 325 المكونة للعدد الإجمالي لأعضاء الغرفة الأولى، أي مجلس النواب. 6- أثرت الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة الدارالبيضاء في 16مايو/ أيار 2003 على حزب العدالة والتنمية؛ حيث وُجِّهت إليه أصابع الاتهام بضلوعه بشكل مباشر أو غير مباشر فيما حصل؛ مما اضطره إلى الدفاع عن نفسه بإدانة ما حصل والتبرؤ منه، وقد ساهم، بعدما كان مترددًا من قبل، في استعجال إصدار "قانون مكافحة الإرهاب" في 28مايو/أيار 2003، إلى جانب باقي الأحزاب والمنظمات السياسية. 7- يتعلق الأمر بكل من حزب الاستقلال، والحركة الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، علاوة طبعًا على حزب العدالة والتنمية. 8- أوْلى الدستور الجديد أهمية خاصة لموضوع الحكامة ومؤسساتها وآلياتها؛ حيث أفرد لها بابًا منفردًا، هو الباب الثاني عشر الذي يبتدئ من الفصل 154 وينتهي في الفصل 171. للاطلاع على الدستور المغربي، الصادر في 29يوليو/تموز2011، انظر الجريدة الرسمية، عدد 5964 مكرر بتاريخ 30يوليو/تموز 2011، ص 3600. 9- نُشِر الخبر في العديد من الصحف الوطنية، وفي الموقع الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية ليومه الأحد 11مارس/آذار 2012.. راجع موقع الحزب: http/:www.pjd.ma 10- تكونت حركة 20 فبراير عند انطلاقها من كل من مناضلي جماعة العدل والإحسان الإسلامية غير المرخص لها قانونيًا، واليسار الاشتراكي الموحد، وحزب النهج الديمقراطي، وشتات من الجمعيات والمنظمات، ومناضلي بعض الأحزاب السياسية، ونشطاء جمعويين مستقلين. 11- تجدر الإشارة إلى أن الحزب يعتبر نفسه سليل الحركة الوطنية، وليس وليد انصهار أجبرته الظروف بين قادته المنحدرين من "جمعية الإصلاح والتجديد" و"الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية"، بزعامة عبد الكريم الخطيب، التي لها امتدادات تاريخية قديمة، سواء داخل جيش التحرير المغربي، أو في أوساط النخبة الوطنية المغربية. موقع مركز الجزيرة للدراسات