ليس في الإمكان أبدع ما كان" هذا وصف ينطبق إلى حد ما، على التشكيلة الحكومية المغربية التي أعلن عنها رسميا في الرباط، زوال يوم الثالث من الشهر الجاري. هي حكومة التوافقات بامتياز، ليس بين حزب العدالة والتنمية متصدر نتائج الانتخابات التشريعية وباقي أطراف التحالف المشاركة قي الحكومة، وإنما بين الحزب الإسلامي المعتدل والقصر الملكي، الذي وجد نفسه يتعامل لأول مرة، في تاريخ المغرب المستقل، مع معطى سياسي غير مسبوق بل فريد من نوعه، أنتجته صناديق الاقتراع الشعبي، في ظل دستور تجاوب في صوغ بنوده الكثيرة، مع مطالب الشارع وطوح وتطلعات النخب السياسية والمدنية، حيث أعطت الوثيقة الأسمى التي صوت عليها المغاربة بما يشبه الإجماع، سلطات وصلاحيات واسعة لرئيس الحكومة والمؤسسة التشريعية؛ ما يعتبر بمثابة تقاسم للسلطة مع الملك التي كان يمارسها من ذي قبل، بدون قيود أو حدود، منحه إياها نظام سياسي مستوحى في جوانب كثيرة من نظام الجمهورية الخامسة في فرنسا. ويمكن القول، بعد صدمة الانتخابات التشريعية وإجراء مشاورات مطولة أدت إلى تشكيل فريق حكومي. أن حزب العدالة والتنمية قائد التحالف، أظهر قدرا كبيرا من النضج والبراغماتية السياسية، تجلى ذلك في أمور كثيرة لعل أبرزها مرونته وقناعته إثناء مراحل التفاوض التي لم تخل من صعوبات ومصاعب بعضها طبيعي، لا يخلو منها أي مجتمع سياسي، وكثير منها مفتعل بالغت الإشاعات والنميمة السياسية وحتى الدسائس في تضخيمها لدرجة أن البعض بما في ذلك الصحافة، شرعوا في الحديث عن "السيناريو" الأسود أي القضاء قي المهد على آية محاولة لحزب العدالة والتنمية،ليصبح تنظيما سياسيا عاديا قادرا، ومؤهلا لتدبير الشأن العام تحت أي ظرف كان. وفي هذا السياق، يجب الاعتراف للمك مجمد السادس بالفضل، لأنه أفشل كل الدسائس الصغيرة التي عملت ونشطت في السر والعلن من أجل "شيطنة" حزب العدالة والتنمية، بل إن الملك ربما اجتهد في تطبيق وتأويل الدستور، فعين رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، قبل أن يشرع الأخير في مشاوراته الحزبية،أي أن الملك اختار أن يتجاوز مرحلة "التكليف "إلى "التعيين " وما رافقه من أداء القسم الدستوري، وهو إجراء يقترض أن يتم بعد تشكيل الحكومة بكامل أعضائها. ذلك الموقف الواضح من الملك، كان مؤشرا على رفضه الالتفاف على ما نطقت به صناديق الاقتراع، وأكثر من ذلك إن الملك لم يسند رئاسة الحكومة لشخصية أخرى من الحزب الفائز، بل راعى الأعراف المرعية في الديمقراطيات العريقة التي تقضي باختيار زعيم الحزب الفائز. هناك أمر لافت يضفي على الحكومة الجديدة صفة "التوافق" بين مكوناتها الحزبية الذين اقتسموا الحقائب الوزارية بعدل معقول. فإذا نال حزب ما أكثر من حصته بالنظر إلى نتائجه في الانتخابات التشريعية، فإن التضحيات والتنازلات المتبادلة والمتقاسمة، أملاها حرص الجميع على إنجاح التجربة والانطلاق بأول حكومة في ظل تنزيل ديمقراطي لبنود الدستور الجديد.هكذا سجلنا أن "العدالة" تنازل عن بعض الحقائب الأساسية لفائدة حلفائه أو أنه أرضى القصر بذلك. وفي هذا السياق احتفظ الفريق الحكومي الجديد بما يجوز الاحتفاظ به من الحكومة السابقة أي الأمانة العامة للحكومة قي إشارة إلى استمرارية الذاكرة التشريعية للدولة المغربية. واستمر وزير الأوقاف في منصبه كجزء من الشأن الديني الذي يعود الإشراف عليه حسب الدستور إلى الملك باعتباره أمير المؤمنين ونفس المبدأ ينسحب على الجانب الدفاعي. اكتفى الملك بممارسة حقه الدستوري في أضيق الحدود، إيمانا منه أن جميع أعضاء الحكومة هم وزراؤه بمعنى من المعاني وليسوا معارضيه. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الحكومة الجديدة متوازنة في ظاهرها، وهي ميزة قابلة للاهتزاز . والمعول لكي لا يحدث ذلك على عدة شروط أولها شخصية رئيس الحكومة وقدرته على تدبير الاختلاف والاجتهاد بين أعضاء فريقه الحكومي.ويبدو أم بنكيران أبان، لحد الآن عن ذكاء ودهاء سياسي جدير بالثناء. ويتمثل الشرط الثاني في طبيعة البرنامج الحكومي والكيفية التي صيغ بها بشكل يجعل جميع الأطراف تعمل من أجل تطبيقه بإخلاص، كونه يعبر عن مصلحة البلاد وليس الفئات. ولعل أهم الشروط الكفيلة بضمان التوازن والتضامن والفعالية الحكومية، أن تكف خفافيش الظلام عن ممارسة اللعب وراء الستار الذي اعتادته في أزمنة وأمكنة وسياقات، ولت إلى غير رجعة. لقد انتبه رئيس الحكومة،إلى هذا الفخ ولذلك أعلن صراحة ومنذ البداية أن الحوار بينه وبين الملك سيتم بدون حجاب، بعياره أخرى فإن بنكيران، سيكون مصغيا ومتفهما ومستعدا لقبول ما يراه الملك صالحا من توجيهات، في حالة تلقيها منه مباشرة والتذاكر معه بشأنها وليس عبر وسائط أو العمل بمقولة " سيدنا يقول لك أن،،،،،". تلك علاقة جديدة، يؤسسها الدستور الجديد من شأنها أن ترسخ الثقة بين الملك وحكومته كيفما كان لونها الحزبي، ما سيضع حدا، أو يقلص، من ضرر وخطر "لوبيات" الضغط ومراكز الفساد المتدثرة وراء السلهام الملكي. هذا بعض مما ينادي به الحراك السياسي والاجتماعي في المغرب. لا بد من الإشارة ولو باختصار إلى أن مؤسسة الديوان الملكي تقوت بعدد من المستشارين الجدد ما يؤهلها لتصبح بمثابة القوة العازلة بين الضفتين. ومثلما أصبحت الفرصة مواتية لأول حكومة ذات صلاحيات فعلية واسعة، كذلك يمكن لمستشاري الملك أن يقوموا بواجب النصح وتقديم المشورة بتجرد ونزاهة وحياد تام. إن فعلوا سينالون رضى الملك وثناء الشعب.