"الشرق الاوسط" القاهرة: خالد محمود «القادمون من الخلف»، تعبير يعرفه جيدا محبو لعبة كرة القدم، حيث تقضي الخطة بأن ينشغل مدافعو الفريق المنافس برقابة رأس الحربة والمهاجم الصريح قبل أن يأتي أحدهم من الخلف يشق الصفوف ليحرز هدفا في هدوء. ربما هذا بالضبط ما فعله الأكاديمي عبد الرحمن الكيب عندما تم انتخابه مساء الاثنين الماضي كأول رئيس للحكومة الانتقالية الليبية من جانب أعضاء المجلس الوطني الانتقالي. عبر الهاتف عندما تحدثت «الشرق الأوسط» إليه من العاصمة الليبية طرابلس بعد وقت قصير من فوزه، بدا الكيب واثقا في قدراته على المضي قدما في مهمته الصعبة. بالنسبة للكثيرين في ليبيا وخارجها، يعتبر الكيب حلا سحريا لمعادلة الأزمة السياسة والعسكرية المحتدمة الآن في ليبيا بعد إزاحة نظام العقيد الراحل معمر القذافي. يتمتع الكيب بهدوء نفسي ينعكس على نبرة صوته الواثقة، وينظر إليه الكثيرون على أنه الحصان الأسود في معادلة سياسية صعبة بكل المقاييس في ليبيا الجديدة. يمثل الرجل خليطا من المشهد الليبي. فهو من طرابلس العاصمة وعمل في قطر والولاياتالمتحدة وكلتاهما قادت التحالف الغربي ضد نظام القذافي، كما أن خلفيته المهنية والأكاديمية تجعله رجل تكنوقراط بامتياز. ليس لدى الرجل أجندة سياسية معينة، وهو ليس محسوبا لا على الإسلاميين ولا على الليبراليين، وتشي خلفيته العلمية بقدرات تنفيذية هائلة إن صح توظيفها ولم يتم تبديدها في صراعات السياسة وكواليسها. الآن يتعين على الكيب، وقد بدأ مشاوراته لتشكيل حكومته التي ستخرج إلى النور في غضون الأسبوعين المقبلين، أن يستخدم كل تاريخه السياسي والعلمي والأكاديمي لكي يبرهن لليبيين على أنه رجل المرحلة باقتدار. وتلك، كما يقولون في طرابلس وبنغازي لن تكون مهمة سهلة على الإطلاق. فالجميع يريد جزءا من كعكة السلطة، بيد أنه يعي ما يتعين عمله لاستيعاب مطالب الثوار، بأن يكون لهم موطأ قدم في حكومته. ومع ذلك يضع الكيب كما أبلغ مؤخرا «الشرق الأوسط»، عدة معايير معينة في اختيار وزرائه، أهمها الكفاءة والوطنية. وفي رسالة واضحة لطمأنة الثوار الذين طالب بعضهم في السابق بالحصول على نصيب الأسد من المقاعد الوزارية للحكومة، قال الكيب «البعض عندما يتحدث عن الثوار كأنه يتحدث عن جسم مريض وهذا خطأ كبير لمن يظن هكذا، وهؤلاء الثوار من نمثلهم وهم إخوة وأخوات لنا نحبهم ونحترمهم ونقدر كل جهودهم والدماء التي دفعوها من أجل تحرير بلادنا وبالتالي سنتعامل مع هذا الملف بكل احترام وتقدير وأخوة». وتابع «نعلم جيدا أن إخوتنا الثوار يبادلوننا الرأي ويعرفون جيدا أن الاستقرار والأمن والأمان أمور مهمة جدا، وأنا متأكد أن حملهم للسلاح ليس إلا لفرض الأمن والأمان، وما هي إلا مسألة وقت فقط». وهكذا لا تساور الرجل أي شكوك في أن حكومته ستستطيع إقناع الثوار المسلحين بكثافة في مختلف مدن ليبيا أن يتخلوا عنه طواعية وينخرطوا في المؤسسات الأمنية والعسكرية للدولة الليبية الجديدة. ثمة ملفات كبيرة وضخمة سيتعين على حكومة الكيب أن تتعامل معها على الفور تحت ضغط الرأي العام الليبي الذي بات يتطلع إلى كل ما هو أفضل ولا يقبل بأنصاف الحلول. بالنسبة للكيب، فهو بارع في الاستماع والإنصات إلى ما يريده الآخرون، يساعده في ذلك هدوؤه واتزانه النفسي ومشواره الطويل الذي قطعه قبل أن يعتلي منصبه الحالي. وهو يدرك دون مواربة وبصدر رحب، أنه سيذهب قريبا لشراء المزيد من الصبر من أقرب العطارين في بلد نفد صبر أهله بعد 42 عاما من الكبت والقمع والتجاهل. حكومة الكيب ستدخل التاريخ مرتين: المرة الأولى باعتبارها أول حكومة على الإطلاق يعرفها الليبيون ويختارونها بمحض إرادتهم، والثانية لأنها الحكومة التي ستقود البلاد إلى مرحلة لم تعرفها من قبل وهي صناديق الانتخابات التي ستأتي لاحقا بحكومة مستقرة وتفتح المجال نحو إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ستكون محط اهتمام ومتابعة العالم. وتنص خارطة الطريق التي أعلنها المجلس الانتقالي على تشكيل حكومة مؤقتة بعد شهر كموعد أقصى من إعلان تحرير البلاد، الذي تم رسميا في 23 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على أن تجرى انتخابات تأسيسية في مهلة لا تتعدى ثمانية أشهر تتبعها انتخابات عامة بعد سنة على أبعد تقدير. قبل انتخابه، في مشهد هو الأول من نوعه في ليبيا ما بعد سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي ومقتله، لم يكن اسم الرجل المتحدر من عائلة وطنية في العاصمة الليبية طرابلس معروفا للكثير من الليبيين أو متابعي الملف الليبي. لكن أعضاء المجلس الانتقالي راهنوا عليه باعتباره الرجل الذي يصلح لهذه المهمة العسيرة. لاحقا سيكتشف أعضاء المجلس الانتقالي الذين انتخبوا الكيب أنهم أجابوا عن كل الأسئلة المطروحة على الساحة الداخلية باختيارهم لشخص الكيب ليشكل أول حكومة على الإطلاق في دولة لم تعرف المعنى التقليدي للحكومة على مدى حقبة القذافي التي دامت نحو 42 عاما. لهذا لم يكن صعبا على جماعة الإخوان المسلمين أن تهنئ الكيب بمنصبه، وأن تتمنى له التوفيق فيما وصفته بمهمته الوطنية الكبيرة، معتبرة في بيان تلقت ال«الشرق الأوسط» نسخة منه، «أن المرحلة الانتقالية القادمة غاية في الأهمية من حيث العمل على بسط الأمن وإرجاع شؤون الحياة في الدولة والمجتمع إلى حالة الاستقرار والفاعلية بما يخدم مصالح الليبيين كافة، والعمل على التأسيس الصحيح لمرحلة الدولة المدنية الديمقراطية المأمولة في المستقبل القريب». لم يكن الكيب صاحب ظهور لافت، ومع إعلان فوزه ملأت همسات مرتبكة القاعة. ويعتقد أحمد الأطرش أستاذ العلوم السياسية أن أحد أسباب اختيار الكيب، هو دفع الاتهامات بتحيز المجلس لمدينة بنغازي في شرق ليبيا والتي كانت مهد الثورة ضد القذافي، معتبرا أن المجلس يريد أن يوازن الأمور وأن يظهر لسكان طرابلس أن المجلس شامل حقا. ويعبر علي رمضان أبو زكوك، رئيس منتدى المواطنة للديمقراطية والتنمية البشرية في مدينة بنغازي، في تصريح ل«الشرق الأوسط»، عن اعتقاده بأن اختيار الدكتور عبد الرحيم الكيب «يعتبر مؤشرا هاما على قدرة الليبيين على الممارسة الديمقراطية بانتخابات حرة وشفافة ونزيهة بعد أن حرموا منها لأكثر من أربعة عقود، وأيضا يؤكد لنا أن الممارسة الديمقراطية هي التي بإمكانها أن تأتينا بالإنسان القدير والمؤهل علميا ووطنيا لحمل عبء هذه المهمة». وفي جملة يرددها الكثيرون ممن يهنئون الكيب على فوزه بمنصبه الجديد، قال أبو زعكوك «تهنئتي القلبية للدكتور الكيب على هذه الثقة وأعانه الله على حملها». وانتخب أعضاء المجلس رئيس الحكومة الجديد، بنظام الاقتراع السري المباشر، عن طريق أن يأخذ كل عضو ورقة موقعة من أمين سر المجلس ومختومة بختم المجلس ولا يوجد بها أي أسماء للمرشحين. ويتوجه بها إلى جانب بمفرده ويقوم بكتابة اسم واحد من المرشحين الخمسة، والذين لم تكتب أسماؤهم في الورقة، وبعد ذلك طي الورقة ووضعها في صندوق بلاستيك شفاف. وبعد انتهاء عملية الاقتراع، بدأت عملية الفرز مباشرة أمام جميع الحضور من المجلس ومندوبي وسائل الإعلام. ومع ذلك كاد الأمر أن يفسد تماما، بعدما وقع خطأ إداري بسيط، كاد أن يتسبب بإعادة الانتخابات بين الكيب وأقرب منافسيه. ولكن سرعان ما تدارك عبد الحفيظ غوقة، نائب رئيس المجلس الانتقالي والمتحدث باسمه، الخطأ وقامت اللجنة بتصحيحه. وهكذا تحولت نتيجة الانتخابات من الإعادة إلى إعلان فوز مستحق للكيب، وهذا ما أكد على نزاهة وشفافية عملية الاقتراع. وأيضا أكد وفقا لما يراه محللون سياسيون، على أن تجربة الديمقراطية في ليبيا الجديدة ما زالت جديدة وتحتاج إلى المزيد من التدريب والتأهيل. يقول البعض إنه كان من الممكن تدارك الخطأ بسهولة لو أن اللجنة المسؤولة عن عملية الاقتراع قامت بالمناداة على الحضور قبل بدء عملية الاقتراع أو عد الحضور، وهو ما يعني اكتشاف أن الحضور 51 وليس 52 عضوا، وأن عضوا كان قد تم استبعاده من عضوية المجلس لعمله بالمصرف المركزي، وأن اسمه ما زال موجودا في قائمة المجلس وهو الصديق الكبير. يشرح غوقة ما حصل قائلا: «في بداية التصويت كانت اللجنة التي تدير عملية الاقتراع والمكونة من المهدي كشبور المستشار القانوني للمجلس ومصطفى المانع أمين سر المجلس وعلي سعيد مدير مكتب رئيس المجلس، تعتقد أن عدد الأعضاء الحضور 52 عضوا، لأن اسم الصديق الكبير الذي تولى مهام المصرف المركزي كان ما زال موجودا بالقائمة ولم يتم حذفه». وتابع «وبعد عملية فرز الأصوات اكتشفت أن الأصوات 51 فقط نظرا لعدم وجود الصديق الكبير بالقاعة ولعدم وجوده أصلا في المجلس». في كل الأحوال، انتهى الجدل الإداري، حيث لم يكن صعبا أن يفوز الكيب من الدورة الأولى من بين خمسة مرشحين بعدما نال 26 صوتا من أصل 51 ناخبا هم أعضاء المجلس الانتقالي الذين شاركوا في هذه الجلسة التاريخية، بينما حصل منافسة مصطفي الرجباني على 19 صوتا، وحصل علي الترهوني على 3 أصوات، ولم يحصل علي زيدان وأدريس أبو فايد على أي أصوات، فيما 3 أصوات كتبوا (لا صوت، لا شيء للتصويت، ممتنع عن التصويت). ومثلت الطريقة التي أديرت بها عملية انتخاب الكيب نموذجا يحتذى به في تطبيق الديمقراطية بشفافية عالية وفي حضور مندوبي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، مما يعد مؤشرا جيدا على توجه ليبيا نحو التحول الديمقراطي. كانت هذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي يتاح فيها لليبيين أن يسموا رئيس حكومتهم وأن يختاروه بنفس المسمى وليس ما كان يعرف باسم أمين اللجنة الشعبية العامة الذي لطالما اعتمده القذافي على مدى عقود وفقا لنظامه السياسي الجماهيري البائد. في السابق، كان الليبيون يعرفون فقط المسمى الوظيفي للمنصب من دون أن يشغلوا أنفسهم بمعرفة اسم رئيس الحكومة أو أسماء الوزراء (الأمناء). فالقذافي منع إذاعة أسماء الجميع حتى يبقى هو وحده محط الأنظار وملء السمع والبصر. يعتقد البعض أن الكيب، الأكاديمي المولود في العاصمة الليبية طرابلس، قضى عقودا في الخارج ولديه القليل من الخبرة السياسية. لكن رمضان أبو زعكوك الذي عرف الكيب على مدى ثلاثين عاما، قال في المقابل ل«الشرق الأوسط»: «لا أعتقد أن عدم معرفة الناس للدكتور الكيب ينتقص من قدراته، وأنا أعرف الرجل لأكثر من ثلاثة عقود، وهو من المناضلين في القضية الوطنية الليبية، ومن الذين يعملون بصمت». في عام 1976 غادر الكيب جماهيرية وجنة القذافي، وانضم للمعارضة. يقول هو عن هذه الفترة: «غادرت البلاد كنموذج عن الكثيرين الذين غادروا بسبب النظام الوحشي الذي كان هنا في طرابلس، كان علينا مغادرة البلاد وإلا كان علينا القيام بأمور لم تكن بالضرورة سلمية لم أكن أريد فعلها». ولد عبد الرحيم خالد عبد الحافظ الكيب عام 1950 بالجزء القديم من العاصمة الليبية طرابلس، وتخرج في جامعة طرابلس وتحصل «بمرتبة الشرف» على شهادة البكالوريوس في مجال الهندسة الكهربائية عام 1973، كما حصل على شهادة الماجستير من جامعة كاليفورنيا عام 1976 ومن ثم شهادة الدكتوراه من جامعة ولاية نورث كارولينا عام 1984. انضم لجامعة ألاباما كأستاذ مساعد في الهندسة الكهربائية في عام 1985، ثم صار أستاذا في عام 1996، وقد عمل أستاذا في جامعة ولاية كارولينا، وجامعة ألاباما، وفي الجامعة الأميركية في الشارقة، ومؤخرا عمل في معهد البترول في الإمارات العربية المتحدة. أشرف الكيب على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. ويعد الكيب باحثا في مجال هندسة الطاقة الكهربائية ومؤلفا للعديد من الأوراق البحثية. وقد رعيت بحوثه من قبل مؤسسة العلوم الوطنية ومعهد بحوث الطاقة الكهربائية ووزارة الطاقة الأميركية، شركة الخدمات الجنوبية، وشركة الطاقة ألاباما (أبكو). ونشرت له العديد من التقارير والبحوث في مختلف الصحف الدولية والمجلات المتخصصة، حيث يعد الكيب باحثا في مجال هندسة الطاقة الكهربائية ومؤلفا للعديد من الأوراق البحثية. وقد رعيت بحوثه من قبل مؤسسة العلوم الوطنية ومعهد بحوث الطاقة الكهربائية ووزارة الطاقة الأميركية، شركة الخدمات الجنوبية، وشركة الطاقة ألاباما (أبكو). وقد طبّق العديد من الشركات في الولاياتالمتحدة أعماله في مجال «التوزيع محدود الانبعاث وتعويض الطاقة التفاعلية». وعمل كاستشاري لصالح عدة مؤسسات صناعية منها شركة ألاباما للطاقة وشركة خدمات الجنوب. خدم كعضو مجلس إدارة المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا (التي مقرها الشارقة) بين عامي 2001 و2007، كما أنّه عضو في «لجنة العلوم والتكنولوجيا» بالبنك الإسلامي للتنمية، وله عضوية عليا بجمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات ساهم في تحرير إصدارها الدوري بين عامي 1992 و2000، وعضو مساهم بعدة مؤسسات أكاديمية أخرى. خلال إجازة أكاديمية قضاها بعيدا عن جامعة ألاباما، أمضى عامين بالجامعة الأميركية في الشارقة (1999 - 2001)، حيث ترأّس قسم هندسة الكهربة والإلكترونيات والكومبيوتر، كما انضم للعديد من اللجان المهمة وعمل على تطوير برامج الشهادات الجامعية المختلفة لاعتمادها دوليا. شغل الكيب العديد من المناصب من بينها منصب عضو في مجلس إدارة العربية للعلوم والتكنولوجيا 2001 - 2007، وهو عضو في البنك الإسلامي للتنمية، والمجلس الاستشاري بالمعهد الكوري للمهندسين الكهربائية، واستشاري بمجلس إدارة المجلة الدولية للابتكارات في نظم الطاقة.