في المغرب لايمكن أن يذكر الحمق إلا ويذكر معه مكانان للعلاج،هما مدينة برشيد،في منطقة الشاوية، وضريح بويا عمر،نواحي مراكش،قريبا من مدينة قلعة السراغنة.المكان الأول يجري فيه العلاج وفق الطب العصري الحديث،والمكان الثاني فضاء لترويج الخرافة بواسطة"بركة" الأولياء والصالحين. اشتهرت مدينة برشيد تاريخيا بمستشفى المجانين الذي ارتبط بها،وارتبطت به في ذاكرة الناس ،وثمة أغنية شعبية معروفة،تقول بعض مقاطعها إن "برشيد يداوي"،أي أنه يعالج كل مصاب بمرض الجنون،و"سطات يسطي"، أي يصيب بالحمق.وكثيرا ما يتردد اسم برشيد على ألسنة الممثلين الكوميديين المغاربة حين يقتضي الموقف الفني اتهام بعض شخوص المسرحية بالحمق. وفي الطريق الفاصلة بين مدينتي الدارالبيضاءوبرشيد،تكفي الإشارة إلى الرأس باليد،ليعرف سائق الطاكسي أن وجهتك هي برشيد،التي لاتبعد عن مدينة الدارالبيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، سوى بحوالي أربعين كيلومترا تقريبا،وعن مطار محمد الخامس الدولي ب15 كيلومتر. ورغم أن مدينة برشيد هي الآن مركز إداري وتجاري وصناعي وفلاحي كبير،بعد أن أصبحت إقليما في العهد الجديد، فإن سمعة مستشفى الأمراض العقلية الموجود داخلها،تعدت الحدود،علما أن هناك في المغرب مستشفيات أخرى للعلاج من الحمق، إلا أن مستشفى برشيد يبقى الأكثر شهرة، وهو من أكبر وأقدم مستشفيات العلاج في أفريقيا،إذ يعود تاريخ إنشائه إلى سنة 1917،على مساحة 35 هكتارا،سرعان ماتمددت بحكم الإقبال عليه من جميع أنحاء المغرب،وتتسع طاقته الاستيعابية لاستقبال أعداد متزايدة من المجانين تقدر بالآلاف كل سنة. نزلاء يرسمون ويعزفون ويغنون للحياة ومن أجمل ما شهدته رحاب هذا المستشفى في أوائل الثمانينات من القرن الماضي،سابقة فنية رائدة، وقف وراءها الدكتور عبدالله زيوزيو،طبيب الأمراض النفسية والعقلية.فقد فتح المستشفى أبوابه، لمدة أسبوع تقريبا، لاستقبال أشهر الرسامين المغاربة لرسم جداريات تمنح البهجة والبهاء لممرات المستشفى،وسمح لبعض النزلاء من المجانين بالتعبير عن ذواتهم بالريشة والألوان،إلى جانب الفنانين،وكانت المفاجأة مثيرة للدهشة،فقد أبان بعض المرضى عن مواهب فنية دفينة،لاينقصها سوى الصقل،ليس في الرسم فقط،بل في الشعر والموسيقى،حيث كانوا يلقون قصائد حب بقيت راسخة في ذاكرتهم،ويغنون ويرقصون بمنتهى الفرح والعفوية،وكأنهم يريدون أن يثبتوا للآخرين أنهم عقلاء مثلهم،ويملكون شحنات من المشاعر والأحاسيس تنتظر الفرصة المواتية فقط،لتنطلق من عقالها،وتعانق الفضاء الرحب. ومما أعطى لهذه الخطوة غير المسبوقة نكهتها،أن الرسامين امثال محمد المليحي، ومحمد شبعة، وعبد الكريم الغطاس، وعبد الله الحريري، والمثقفين والفنانين أمثال الكاتب إدريس الخوري، والمخرج السينمائي عبد القادر لقطع،وثريا جبران،(الممثلة آنذاك)،نزلوا ضيوفا في أجنحة خاصة،لمدة أسبوع تقريبا،بنفس المستشفى،عقدوا خلالها علاقات صداقة مع بعض النزلاء،فكانوا يأكلون ويشربون معهم في جو من الحميمية والتلقائية. وكانت تلك التجربة رائدة في عمقها،وتهدف لربط التواصل الفني والإنساني بين الفنان والنزيل،باعتبار كل واحد منهما يملك قدرا من الجنون،جنون الإبداع وجنون الحمق،وبينهما خيط رفيع. وككل مبادرة جميلة فإنها لم تتكرر،لكنها تركت أثرا حسنا في نفوس نزلاء مستشفى الأمراض العقلية في برشيد،خاصة وأن بعضهم ممن طالت فترة علاجهم،تباعدت عنهم زيارة الأهل والأقارب لهم،فوجدوا في هذا التجمع الفني والدفء الإنساني فرصة لاتعوض،ولن يجود الزمن بمثلها. علاج طويل الأمد وقد يصادف الزائر لمدينة برشيد في أحد أزقتها وأسواقها نزيلا بدأ يتماثل للشفاء،واخذ يخرج إلى الشارع،وقد يتم تكليفه من طرف بعض الممرضين بقضاء غرض ما،بغية تعويده على استئناف حياته من جديد، غير أن هذه الظاهرة كانت مثار انتقاد الفاعلين الحقوقيين،الذين رأوا فيها نوعا من الاستغلال اللإنساني،فتقلص وجودها،أو اندثر نهائيا.. ويخضع نزلاء هذا المستشفى العريق لعلاج طبي يقوم على وسائل علاجية حديثة،غير أنها قد تستغرق وقتا أطول،في انتظار الشفاء التام. ميت" يشفي" الأحياء لايبعد مستشفى الأمراض العقلية في مدينة برشيد كثيرا عن محطة القطار،لذلك كانت وجهتنا المقبلة هي مراكش،عبر مسافة تقدر بحوالي مائتي كيلومتر، ومن مراكش مباشرة في سيارة طاكسي إلى ضريح "بويا عمر"،الذي يبعد عنها بسبعين كيلو متر،في منطقة متربة يسودها البناء العشوائي،وتتجلى فيها مظاهر الفقر والبؤس والتسول، بصورة لاتخطئها العين من أول وهلة. وحسب المخيلة الشعبية لبعض المواطنين المغاربة الذين يحجون إليه من جميع أنحاء البلاد،فإن جثمان "بويا عمر" الراقد داخل ضريحه،"يشفي" من أمراض الصرع والجن والحمق بفضل "بركة الولي الصالح"،حسب اعتقاد البعض. يبدو المكان شبيها بمشهد خارج الزمن،او منظر مأخوذ من مسرح العبث. مرضى يمشون مثل الأشباح في الأزقة المتربة، حفاة احيانا،يصرخون،أويتمددون على الأرض،أو يتبولون على الأرصفة،يحركون رؤوسهم يمينا ويسرة مثل "روبوهات"،قادمة من عالم مجنون،مجنون. وبعض النزلاء لايقدرون على الحركة.إنهم مقيدو الأيدي والأرجل وفق ما تقتضيه طقوس العلاج من الأمراض العقلية والنفسية،اذ يتم ربطهم لفترات قد تستغرق عشر اوعشرين سنة،في انتظار علاجهم،وغالبا ما يظلون أسرى هذه القيود مدى العمر. متاجرون بالظاهرة نصيحة لكل صحفي يريد زيارة ضريح بويا عمر :إخفاء بطاقة الصحافة،حتى لايتعرض للاستفزاز،واحيانا للضرب والانتقام من طرف بعض المتاجرين بالظاهرة في عين المكان،أولئك الذين يملكون شققا ضيقة، ويحشرون فيها طالبي العلاج ،مقابل مبالغ مالية يدفعها أهاليهم الذين لا تسمح ظروفهم بالبقاء بجانبهم. رجال إعلام أجانب ومغاربة نالوا حظهم من المضايقات، حتى لايفضحوا مايجري هناك من استغلال لمرضى قادهم القدر إلى هذا الفضاء المسكون بالجنون.. وقد يواجه الصحفي استفسارا واستنطاقا، و سين وجيم من لدن رجال السلطة المحلية عن سبب الزيارة،وكيف؟ولماذا؟ حصص الاستشفاء في الضريح ومن النزلاء من امضى في هذا المكان اكثرمن 10 او عشرين سنة،وربما أصبح مرتبطا به بطريقة لاشعورية،أوعن طريق الإيحاء أوالتأثير ممن يستفيدون من الاتجار في الترويج للخرافة. حول الضريح تنتشر محلات تجارية صغيرة لبيع المواد الغذائية،إضافة إلى الشموع،ليس لاستعمالها في الإضاءة،بل لشرائها وإدخالها للضريح قصد التبرك بها طلبا للعلاج. غير بعيد من الضريح حيث يرقد جثمان "بويا عمر"، الذي يقال عنه إنه كان أحد أولياء الله الصالحين،تجري طقوس الاستشفاء عن طريق ما يسمى "الحضرة"، بواسطة الموسيقى بالعزف على الناي والنقر على الدف،أو من خلال تلاوة القرآن الكريم،للتخلص من أمراض مثل الصرع والحمق والجنون وغيرها،وسط جموع من النساء والشباب والرجال،في حصص يشرف عليها أحد القيمين على الضريح،وقد يتخللها منظر أحد الأشخاص وهو يشرب الماء المغلى، وينفثه في الهواء باردا،وذلك ضمن الخرافات التي تعشش في المكان. تقوية الإيمان لامتصاص الصدمات وفي اعتقاد بعض الباحثين الاجتماعيين،فإن سبب إقبال بعض الفئات الاجتماعية، وخاصة منها المعوزة، على الأضرحة،طلبا للعلاج يكمن أساسا في تغلغل الخرافة في النفوس،رغم أننا في الألفية الثالثة،كما ان ارتفاع تكلفة التردد على عيادات الطب النفسي يعتبر هوالآخر عاملا من العوامل التي تدفع في هذا الاتجاه الذي تنتفي فيه شروط الاستشفاء الصحيح. فيما يشير باحثون اخرون إلى مؤثرات تؤدي بالشباب إلى السقوط في دائرة الجنون،مثل الإفراط في تناول المخدرات،ولعب القمار،والفشل العاطفي أو المهني،إضافة إلى تعقيدات الحياة المعاصرة بإيقاعها اللاهث،وضغوطاتها الاقتصادية والاجتماعية،وعدم قدرة البعض على مقاومتها او التكيف معها على الأقل،مؤكدين على أهمية تحصين الذات دائما بالإيمان والوازع الديني لقدرتهما على بث الأطمئنان في النفوس وامتصاص الصدمات.