في ظل المناخ الثوري الذي تعيشه شعوب تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن... بات من الصعوبة بمكان تحكيم العقل والمنطق الهادئ في تضييق شقة الخلاف بين رؤى شريحتين عربيتين من جيل واحد، وفي وطن واحد، لمستقبل أنظمتهما السياسية واستطرادا بلوغ تسوية تفاوضية تضع حدا سلميا لمواجهات دامية تأخذ باطراد منحى مأسويا. بعد ستة أشهر على تفجر الانتفاضة العربية الأولى في تونس، ومن استمرار تفاعل الشارع العربي مع الروح الثورية التي انطلقت منها، ومن ازدياد شراسة الأنظمة الحاكمة في تصديها للمد الثوري، ومن غياب أي مؤشر عن احتمال قيام حوار جدي بين الحاكم والمحكوم في دول الانتفاضات الشعبية، يجوز الاستنتاج بأن هناك اليوم جيلا عربيا يرفض التعايش على سطح واحد مع نظام سياسي – اجتماعي من مخلفات عصر أنظمة القرن الماضي الشمولية. لو صح تعميم النظرة الأكاديمية الغربية إلى السياسة كعلم من العلوم الاجتماعية التي تدرس في الجامعات على ما يجري حاليا في عالمنا العربي، لجاز القول إن ما يواجهه المجتمع العربي اليوم، هو عملية انفصام اجتماعي بين ذهنيتين تعايشتا قسرا، ولغاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قبل أن ينفد صبر الشعوب المغلوبة على أمرها من احتمال معالجة الحاكم لعلل أصبحت، مع الزمن، مرادفا لطبيعة النظام وحافزا لممارساته. قد يأخذ المراقب المحايد على الثوار العرب تأخرهم في الاتفاق على مقاربة جماعية لقضية الإصلاح المحقة لأنظمتهم السياسية البالية، حتى في ظل الممارسات القمعية للسلطة. ولكن ما هو عذر «ديكتاتوريي العروبة» في تجاهل تحديات مجتمعهم، بل تحديات العصر لأنظمتهم، بدءا بعلاقة الدين بالدولة (فلا يصبح الدين ملجأ للنظام عند الحاجة)، وعلاقة الأقليات الإثنية والمذهبية بالنظام (فلا يكون التمييز سياسة رسمية)، وأخيرا، لا آخرا، علاقة المواطن العادي بالسلطة وأجهزتها بصيغة تأخذ في الاعتبار حقوقه المشروعة التي أصبحت ثوابت سياسية في القرن الحادي والعشرين. ربما تبدو هذه المطالب مستعصية على من يعتبر السلطة امتيازا حصريا له ولأبنائه من بعده. ولكن من منع ديكتاتوريي العروبة المستأثرين بالقرار السياسي في بلادهم، صغيره وكبيره، من تنفيذ إصلاحات بديهية ربما كانت قادرة على «إلهاء» شعوبهم عن المساوئ العظمى في نظامهم، مثل اعتماد صيغة قومية لتوزيع عائدات النفط على مشاريع إنماء متوازن، والحرص على وجود جهاز قضائي نزيه في الدولة وعلى قيام إدارة بعيدة عن البيروقراطية والفساد؟ لو حول «ديكتاتوريو العروبة» جزءا صغيرا من الاهتمام الذي أولوه لمؤسساتهم الأمنية والاستخباراتية لصالح جهازيهما القضائي والإداري لكانا مضرب مثل في العالم. عجزوا عن تحقيق الصغير قبل الكبير فبات التشبث بالسلطة بأي ثمن كان شعار المرحلة... فهل تفلح المجازر في إطالة أعمار الديكتاتوريات ولجم الشارع وكبت الأنفاس؟ على هذا الصعيد، يمكن القول إن الأنظمة الشمولية العربية دخلت الآن الشوط الأخير في سباق مصيري بين الشرعية القمعية التي تنفذها والشرعية الشعبية التي تواجهها. ولكن تاريخ الثورات حافل بأمثلة تؤكد أن العنف يولد العنف وإن احتواه مؤقتا، وأن شرعية الأكثرية الشعبية تفرض نفسها، في نهاية المطاف، على منطق القمع والتسلط. لذلك - ولأن المواجهة مع الأنظمة الشمولية تتحول باطراد إلى ما يشبه حرب استنزاف قد يطول أمدها، وبالنظر لافتقاد العرب إلى نموذج ديمقراطي قائم فعلا في بلادهم يمكن طرحه للعالم كمثال لدولة الغد، ولأن الانتفاضة العربية حريصة على إثبات استقلاليتها عن أي نفوذ أجنبي - بات لزاما على الثوريين العرب أن يتفقوا منذ الآن على صورة الدولة الديمقراطية التي يسعون لإقامتها في دولهم ليجسدوا بذلك هوية «القضية» التي يضحون غاليا في سبيلها ولكي لا تبقى «رؤوس الديكتاتوريين» الهدف الأبرز لثورتهم.