لعل أول ما يفرضه الدستور الجديد بعد الاستفتاء الشعبي ثم تصديق المجلس الدستوري، أن تصبح للمغرب مؤسسات اشتراعية وتنفيذية جديدة، تبلور مضامينه المتقدمة في فصل السلطة وتوزيع الصلاحيات، أي أن يدخل حيز التنفيذ الذي يعتبر محك اختبار النوايا والإرادات. إجرائياً يصعب تحقيق هذا الانتقال السريع، من دون إقرار قوانين تطاول مدونة الانتخابات وتقسيم الدوائر والوفاق حول نمط الاقتراع، إضافة إلى معاودة النظر في قانون الأحزاب وحدود التحالفات وأنماط التعاطي مع القيم والمفاهيم التي حفل بها الدستور الجديد. وبالتالي فإن جانباً من التداخل بين المؤسسات المنتهية ولايتها وتلك المطلوب قيامها يظل قائماً، أقربه أن البرلمان الحالي قد يدعى إلى اجتماع طارئ لإجازة مشاريع القوانين ذات الصلة. أي أن الحكومة الحالية هي التي ستتولى إعداد هذه الترسانة في سياق وفاق ينزع عنها صفة الغالبية النيابية التي تفرض وجهة نظرها، ويحتم مشاركة واسعة للمعارضة، طالما أن الأمر يتعلق بقضايا حيوية، والحال أن الأسلوب الذي اختاره المغرب من خلال تنظيم انتخابات سابقة لأوانها بمرجعية دستورية جديدة، جنب البلاد السقوط في منزلق الفراغ. سواء تولت حكومة رئيس الوزراء الحالي عباس الفاسي من خلال سلطة المؤسسة الاشتراعية التي ستنتهي ولايتها قريباً إنجاز هذه المهام الإجرائية أو تم تعويضها بحكومة وحدة وطنية يقودها شخص مستقل لتلافي أي تأويل حزبي لمضامين تلك الإجراءات، فالأكيد أن البلاد دخلت مرحلة جديدة، من غير الوارد خلالها العودة إلى أساليب قديمة. العبرة في ذلك أن الوثيقة الدستورية قطعت مع ممارسات كانت على الصعيد التنفيذي محكومة بشكليات حزبية لا ترتقي إلى درجة الحكومة السياسية، في ظل هيمنة الشخصيات التكنوقراطية، كما أنها على الصعيد الاشتراعي كانت تخضع لتحالفات هشة، استندت في جوانبها السلبية على ما يعرف بظاهرة «الترحال»، أي تغيير الانتساب الحزبي في أي لحظة. والأهم في غضون ذلك أن المرجعية الدستورية لم تعد تكتفي بالمفهوم الفضفاض للتعبير عن الإرادة عبر أنماط الاقتراع، بل رهنته بالنزاهة والحرية والشفافية. وهذا التطور في حد ذاته يعكس المعايير الجديدة في التحكيم، في حال حدوث منازعات، وليس هناك قانون أسمى من الدستور في الحسم في هكذا إشكالات. خارج التوصيف القانوني لديباجة وبنود أول دستور في عهد الملك محمد السادس يكمن البعد السياسي المتمثل في معاودة الاعتبار لأدوار الأحزاب السياسية، وكما أن دستور عام 1966 الذي أفسح المجال أمام بناء الثقة بين القصر والمعارضة توّج بتشكيل ما يعرف بحكومة التناوب التي حملت أحزاب المعارضة إلى الحكومة، فإن ميزة دستور 2011 أنه حدد معالم الصورة، وأصبح الفرقاء السياسيون في الموالاة والمعارضة مدركين أن ما من ضغوط يمكن أن تصنع الخرائط غير ما ينبثق من صناديق الاقتراع. وما من إكراهات تكبّل يد الجهاز التنفيذي في التعاطي مع الملفات والقضايا غير التزام الدستور. فيما أن الدور التحكيمي للمؤسسة الملكية بات أكثر وضوحاً. بيد أن المرجعية التحكيمية تجد امتداداتها وضروراتها في تجارب كان مستبعداً الحسم فيها من دون تلك المرجعية المرتبطة بإمارة المؤمنين وصون الوحدة والتعددية، ولا أدل على ذلك من أن المجتمع المغربي حين كان مهدداً بالتقسيم بين دعاة النهوض بأوضاع المرأة على خلفية منظومة أقرب إلى العلمانية، وبين المحافظين الذين لا يريدون بديلاً عن الأوقاف الشرعية، جاء التحكيم الملكي حلاً وسطاً. في قضية تكريس الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية، بدا كذلك أن البلاد تواجه أخطار نزاعات متضاربة ومتباينة، فجاء الحسم من المؤسسة التحكيمية، ما يعني أن الانضباط لقواعد المنافسات السياسية يحتم وجود حَكَم في رقعة الصراع، غير أن احترام إرادة الناخبين يبقى ضمن أبرز معايير التوجه الديموقراطي لدستور 1966 الذي أنقذ البلاد من نوبة قلبية. فيما أن خَلَفه يراهن على التغيير الهادئ الذي يرسم خريطة الطريق وسط الأعاصير الإقليمية.