لم تقنع عناصر تدعي انتسابها لحركة 20 فبراير، وهذا من حقها، بما تضمنته الوثيقة الدستورية المعروضة على الشعب المغربي للفصل فيها، بالموافقة أو الرفض. ولتأكيد موقفها الرافض للدستور، دعت الحركة، حسبما تناقلته مصادر صحافية اليوم السبت، إلى الخروج يوم غد الأحد إلى الشوارع للتعبير سلميا كما قالت، عن رفضها للدستور الجديد؛ ما يعتبر من وجهة نظر محللين كثيرين تسرعا واستباقا للأحداث من طرف الحركة الاحتجاجية. ويتساءل نفس المحللين إذا كان المعترضون قد أخذوا الوقت الكافي للتعمق فعلا في هندسة الدستور الجديد ، المغاير ، في الشكل والمضمون والبناء والمقاصد والنيات، للوثيقة الحالية التي استفتي المغاربة عليها عام 1996. وتجنبا للإفراط في الإشادة بالدستور المعروض على الاستفتاء، يمكن القول بكل موضوعية إنه ينقل المغرب، بعزيمة وإرادة مشتركة، للدخول في العهد الديمقراطي الحديث بما يشبه المواصفات المتعارف عليها عالميا. ولم يكن ملك المغرب مبالغا حين وصفه بأنه يمثل "تعاقدا جديدا" ليس بين الملكية والشعب بل بين المغاربة أجمعين، بكافة أطيافهم ومكوناتهم وتطلعاتهم نحو المستقبل الأفضل. وكما قال الملك الراحل الحسن الثاني، في خضم النقاش الذي جرى مع المعارضة الوطنية الممثلة في" الكتلة الديمقراطية" عام 1992 بخصوص موقفها المتردد من المشاركة في الاستفتاء وقول "نعم" فإن الدستور ليس قرآنا منزلا ، بل يمكن أن يخضع للتعديل كلما دعت الضرورة التاريخية والمصلحة العامة لذلك . هذا مبدأ ينسحب(والقول ليس للملك الراحل) على كل الدساتير ، علما أن الأمم المتقدمة تسعى دائما إلى الاتفاق على وثيقة دستورية طويلة الأمد، تتسم بالمرونة والصياغة المحكمة والبناء المتماسك وبعد النظر، بل واللجوء إلى نوع من الالتباس الإيجابي في الصياغة اللغوية، ما يتيح الفرصة للآليات الدستورية والاجتهاد الفقهي لممارسة تأويل وقراءة للمتن الدستوري تبعا لزوايا ووجهات نظر المفسرين. وأكاد الجزم دون ادعاء، أن حركة 20 فبراير، إذا تبنت موقفا متشنجا وغير عقلاني وواقعي من الدستور الجديد، واختارت أسلوب التحريض على رفضه، فإنها ستقامر برصيدها السياسي والرمزي الذي راكمته منذ مغادرتها غرف الدردشة الالكترونية ونزولها إلى الشوارع والساحات كقوة مطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد. وبإمكان الحركة أن تدعو إلى التصويت ب "لا" على الدستور إذا ارتأت ذلك، كما يمكنها الدعوة إلى المقاطعة ، إذا سمحت لها القوانين الجارية بممارسة ذلك الحق.لكن يجب عليها الانتباه إلى أن الملك محمد السادس، لم يطلب من الشعب في خطابه قول "نعم" مكتفيا بالتعبير عن موقفه كمواطن قبل أن يكون ملكا . لا يحق للحركة، انطلاقا من منطق السياسة والأخلاق وآداب السلوك، الزعم أن الدستور الجديد "ممنوح" وأن أعضاء لجنة المراجعة والآلية السياسية ما هم إلا "كراكيز" يأتمرون بما يوحى إليهم به. هذا سلوك لا يليق بشباب متعلم، ينزع نحو إعلاء القيم النبيلة في المجتمع.والطامة الكبرى أن مواقف استنكرت ربط الدستور بالوحدة الترابية. إنه موقف مفرط في العدمية. لو كانت حركة 20 فبراير، واقعية لما قاطعت الدعوة التي توصلت بها من لجنة الصياغة. كان بإمكانها أن تعبر عن مطالبها وانتظاراتها، بل لأوكلت لفقهائها إذا كان في صفوفها خبراء في الدستور، صياغة دستور بديل وعرضه على الرأي العام الوطني والمكونات الحزبية والحقوقية والجمعوية، إسهاما منها في نقاش عميق وبناء لإغناء أي مشروع دستوري وللتأثير الإيجابي على لجنة المراجعة. على العكس، استمرت الحركة في الدعوة إلى التظاهر الأسبوعي في الشوارع، بشكل مضحك في بعض الأحيان، رافعة شعارات متضاربة تتراوح بين طلب الشغل والحد من غلاء المعيشة، أو إطلاق سراح المعتقلين ومحاربة رموز الفساد.. وهي في مجملها شعارات أو مطالب ليست مرفوضة في حد ذاتها وإنما التحفظ على توقيتها. بما أن المغرب فتح ورشا دستوريا كان يفترض في "الحركة" أن ترفع أو تخفض سقف المطالب في هذا الاتجاه، وتفصلها عن المطالب الاجتماعية التي يمكن الاستجابة إليها كليا أوجزئيا بقرار حكومي، بينما يتطلب الوصول إلى صيغة دستورية متوافق عليها كثيرا من الصبر والأناة وتجنب الإفراط في تضخيم قوة الذات والاستهانة بقوة الآخرين. وفي هذا الصدد، تنسى الحركة، ما أخذته على سبيل المثال "مدونة السير" من نقاش صاخب وأخذ ورد وحروب كلامية، قبل إقرارها بما يشبه القوة. ولو اتبعنا المسطرة الديمقراطية المثلى والاستجابة لكل الفئات صاحبة المصلحة، لما أمكن التوصل إلى تلك الصيغة التوفيقية للمدونة. هذا دون التذكير بأن مستعملي الطرق لا يطبقونها بالكامل حتى الآن. لا بد للحركة من الانتباه إلى أن زخمها بدأ في التراجع، ما يهدد جذوتها بالانطفاء ، في حال استمرارها في تبني خطاب التصعيد غير المجدي والذي لم يعد له مبرر، بعد الإعلان عن الدستور الجديد وترحيب كافة القوى السياسية والفعاليات الاجتماعية بمضمونه، على اعتبار أنه خطوة كبيرة في سبيل إرساء دعائم الدولة الحديثة. إذا لم تختر هذه الوجهة فإن صدامها سيكون مع أغلب الأحزاب السياسية وأكثرها تعبيرا عن اتجاهات الرأي العام المغربي. قد تجر بعض الأصوات العدمية من اليسار الراديكالي واليمين الديني المتشدد، الحركة إلى النفق المسدود، خدمة لأجندات تجهل مقاصدها وأهدافها، ولذلك يكون من الواجب على العقلاء في الحركة وهم كثيرون، ممارسة دور التهدئة وتغليب العقل على العواطف. لا ينتهي الإصلاح السياسي بين ليلة وأخرى. إنه مسار طويل وشاق وصعب، يتطلب تضافر القيادات الحكيمة من مختلف الأعمار والتخلي عن أسلوب الثأر السياسي. يمكن للحركة أن تحافظ على دورها في الاعتراض الناضج والإسهام بالاقتراح البناء، فما لا يدرك جله لا يترك كله.