في العام 1923، أصدرت مجلة "تايم" الأميركية عددها الرابع بغلاف يحمل صورة الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك. وصفت المجلة الرجل ب"محرر الأتراك" و"أحد كبار الشخصيات في التاريخ المعاصر"، وأفردت مساحة للحديث عن دوره في "الوقوف ضد القوى الخفية للحضارة الغربية"، مشيرة إلى إصراره على الحفاظ على ما تبقى من الدولة التركية الوليدة بعد انهيار الامبراطورية العثمانية. بعد واحد وتسعين عاماً، كتبت المجلة ذاتها تعقيباً على نتائج الانتخابات البلدية التي أجريت قبل أيام العنوان التالي: "أردوغان تركيا يفوز فوزاً كبيراً، ويفكر لما هو أبعد". لم تذهب في تقريرها إلى حد إسباغ أوصاف أسطورية عليه، لكنها أشارت، كما جل وسائل الإعلام المتابعة، إلى رغبته القاضية بجعل نصره حلقة من سلسلة، تبدأ بتصفية الحسابات مع خصومه الذين أرادوا من الحدث الانتخابي محطة لتحجيمه، علماً أن صورته كانت قد احتلت غلافها قبل ثلاثة أعوام (2011) بعدما اختير "رجل العام"، مع إشارة إلى دوره ك"زعيم ذي خلفية إسلامية تمكن من جعل تركيا العلمانية، الديموقراطية، صديقة الغرب، قوة إقليمية مؤثرة". يبرز في التوصيفين المذكورين أعلاه زعيمٌ غرّب تركيا حضارياً وقطع علاقتها ب"الشرق"، لكنه خطّ سياسة مستقلة (وشوفينية) حتى مماته، في مقابل آخر صالحها مع ذاتها الإسلامية وأعادها إلى مجالها الحيوي في العالم الإسلامي، من دون أن يؤثر ذلك على موقعها ك"صديق للغرب" وحليف عسكري عضو في "حلفه الأطلسي". وعلى الرغم من لعب الظروف التاريخية دوراً أساسياً في تحديد رؤية كل منهما، إلا أن أدوار الزعيمين، في المحصلة، جاءت معكوسة. إذ إن سياسات الهوية الأتاتوركية قطعت مع الماضي لتشق لنفسها طريقاً جديداً، فيما أعادت مقابلتها الأردوغانية وصل ما انقطع، من غير أن تقفز عن ضفة الغرب سياسياً، أقله حتى اللحظة. وغني عن القول إن طموح أردوغان، وفق ما ظهر على مدى اثني عشر عاماً من الصعود السياسي، غير محصور بتصفية حسابات محلية ضيقة، كما أشارت المجلة المذكورة وكثير غيرها من المعلقين، بل يصح القول أيضاً إن طموحه يتجاوز حجز مقعد أساسي في قيادة إقليم الشرق الأوسط المتداعي. إذ ثمة ما يدعو إلى الظن أن الرجل، من خلال سعيه إلى تطويب زعامته التركية، يعمل على تأسيس نواة الجمهورية التركية الثانية. وتأسيس هذه النواة يقتضي القفز فوق هالة "أتاتورك" عبر بناء أسطورة موازية، قادرة على موازنة ثقلها المعنوي وتجاوزها تاريخياً، أو أقله، التمهيد لعملية التجاوز تلك. وفي خطاب أردوغان في الفترة الأخيرة ما يكفي للدلالة على جنوحه إلى تحويل حدث انتخابي، يفترض من حيث المبدأ أن يشكل إدارة للتنافس الديموقراطي في البلاد، إلى "مسألة قومية" ومواجهة مع "أعداء تركيا"، فيما بدا أنه محاولة لاستنفار العصبيات ورص الصفوف خلف رافع الشعارات تلك، بقصد جعله أيقونتها. فنتائج الانتخابات، وفق زعيم "الحرية والعدالة"، أثبتت أن "الشعب أحبط المخططات" وجاءت ب"النصر لتركياالجديدة" حيث "جميع الأتراك متحدون"، علماً أن قراءة الانتخابات التعددية يفترض من حيث المبدأ ألا تصل إلى حد اختزال "الشعب" بفريق يمثل، برغم أهمية فوزه، ما يقل عن نصف عدد المصوتين. ولا يُفهم من الحديث عن "وحدة الأتراك"، في هذا السياق، إلا انطواؤه على رغبة بإغفال الاصطفاف الحاد الذي ظهر خلال العام الفائت مع تظاهرات "ميدان تقسيم"، وبطيه تحت صناديق الاقتراع التي يفترض أن تظهّر الخلاف سلمياً بدلاً من أن تطمسه. غير أن رئيس الحكومة التركية يعتقد، على ما يبدو، أن الحاجة تلح اليوم، أكثر من أي وقت مضى، للاندفاع إلى الأمام في مشروع إعادة تعريف الدولة التركية وهويتها وأدوارها الخارجية... وربما أسطورتها المؤسسة. وهذا ما يتطلب التركيز على "مصيرية" معارك الداخل والخارج، واستطراداً، على خلق حالة من التماهي بين الأتراك و"أبيهم" الجديد. فالقضية، بنظر إردوغان، لا تحتمل تراخياً أو تراجعاً، لأن خصوم الداخل أثبتوا أنهم يتحينون الفرصة لإعادة تجربة حزب "الحرية والعدالة" إلى القمقم، أو لتقزيمها إلى حد تصعب معه إعادة إطلاق دينامياتها من جديد. كما أن تعثر اندفاعة أنقرة الخارجية وانتكاسة رهاناتها في سوريا ومصر وقبلهما العراق، تستوجب حشد الطاقات اللازمة لمواجهة الانكفاء الأخير، وهو ما يتطلب إنجاز قدر عالٍ من الالتفاف الشعبي حول آليات المواجهة، حتى لا تصبح تركيا على حدود لعبة الإقليم، بعدما وجدت نفسها غير قادرة على تخطي حدود الاتحاد الأوروبي في السابق. وقد تمكن رئيس الحكومة التركية وحزبه من بلورة ملامحهما المستقلة على مدى عقد ونيف، فتفلّت أردوغان من تحالفات هشة كتلك التي جمعته بغريمه الإسلامي الحالي فتح الله غولين، بعدما كان الحزب قد خرج من العباءة التقليدية المقيدة لمؤسس الحركة الإسلامية في تركيا نجم الدين أربكان مطلع الألفية. وبعدما وضعت تجربة أردوغان حدوداً لتدخل العسكر والقضاء في السياسة، وأجهزت على محاولات "الدولة العميقة" الانقلاب على سلطتها بتوجيه ضربة قاصمة إليها في قضية "إرغينيكون" الشهيرة، وبعدما انقلبت سياسة "تصفير المشاكل" التي اعتمدها وزير خارجيته حيال الجوار إلى سياسة "اصطياد الفرص" مع اندلاع الصراعات المفتوحة في المحيط، بات ممكناً أن يقدم رئيس الحكومة نفسه باعتباره اللاعب الذي عدل تركيبة الدولة التركية ووجهتها الخارجية العامة على السواء. يحاول أردوغان اليوم الظهور بصورة "أبو الأتراك". لم تعد تماثيل أتاتورك البرونزية في طول البلاد وعرضها تفيد في "لمّ الشمل". بل بات الأمر يحتاج إلى رجل متحرك يصدح في جمهوره ليل نهار لشحذ الهمة وتوجيه "صفعة عثمانية" إلى الأعداء، وفق تعبير رئيس الحكومة الذي يتحاشى تحديد هوية هؤلاء أحياناً كثيرة، مفضلاً الإبقاء على شبحيتهم. غير أن "الأسطورة المؤسسة" تحتاج إلى ما يتجاوز الأشباح حتى تتجاوز ما سلفها. والحرب الإقليمية في المجال الحيوي الجديد، وبوابته سوريا، لا تبدو متاحة اليوم، كما كانت "حروب الاستقلال" التي خاضها أتاتورك، وجعلته "موحداً للأتراك"، وفق تعبير أردوغان نفسه، قبل خمسة وتسعين عاماً.