من المعلوم أن الفقه الدستوري المعاصر يجعل للدولة أركانا أو مكونات ثلاثة هي الأرض أو الرقعة الجغرافية المعلوم حدودها، والشعب الذي يعيش فوق تلك الأرض أو الرقعة الترابية المعلوم حدودها والمعترف بها دوليا، والسيادة التي تمارس فوق تلك الأرض وتمثل الشعب بواسطة السلطة الحكومية. وليس غرضي في هذا الحديث أن أخوض في مسألة أكاديمية جرى الفصل فيها منذ زمن بعيد، وما أحسب أن طبيعة المنبر تسمح بذلك، وإن كنت أرى أننا - جميعا - نكون في حاجة إلى التذكير ببعض الأوليات، وخصوصا إذا ظهر من يشكك فيها، على نحو أو آخر، أو يسعى للتلاعب بها لخدمة غرض أو أغراض هي في مثل هذه الأحوال أبعد ما تكون عن النبل والبراءة. وأود، سعيا في إشاعة فكرة أجد (وقد تقرني على ذلك بعد قليل)، أن من شأنها أن تسهم في حل إشكال ورفع لبس يلف مفهوم السيادة تحديدا، ولكي يتضح قصدي منذ البداية أضيف أن من شأن عملي (أو ذاك ما أرجو على كل) أن يسهم في تبديد الغموض، بل ودفع التشويش الذي يمارس على الفكر من قبل الكثير من دعاة الإسلام السياسي والمنافحين عن أطروحاته (متى صح الحديث عن أطروحة، بمعنى القضية المنظمة الصادرة عن بناء منطقي نسقي ومستقيم). يذهب دعاة وأنصار الإسلام السياسي وأطروحاته من كل التيارات والمذاهب، من كان منها معتدلا لينا في القول، ساعيا إلى الارتكان إلى العقل في الحجة والحوار، أو كان أقل يسرا وأكثر جنوحا إلى الغلو والتطرف، إلى أن السيادة لله وحده، ومن ثم فإن الفكر السياسي الحديث والقائلين به والمشايعين لقضاياه يقعون في خطأ جسيم، وأن المسلمين من الذين يشايعونهم يقعون في الإثم العظيم. وحيث إن كل الدول التي لا تطبق شرع الله على الحقيقة وتظاهر الكفر والبغي فتمالئ الكفر والاستعمار، تشارك في الأخذ بمعنى السيادة لغير الله، فهي تدخل في عداد من تجب محاربته والعمل على إزاحته بالعنف ووسائله كلها. ولا أجدني في حاجة إلى الاسترسال في أقوال معروفة مشهورة يتذرع بها البغاة على الحقيقة، الخارجون عن الإجماع والشرع، وليس ذاك مطلبي على كل حال، وإنما أود التنبيه إلى فهم وجدته عند أحد كبار علماء الإسلام، وهو في الوقت ذاته زعيم من زعماء التحرير السياسي في العالم العربي، وداعية من دعاة التحديث السياسي والتجديد الديني، هو المفكر المغربي علال الفاسي. يقر المفكر الإسلامي الشهير، كما يليق بالعالم المسلم فعلا، بأن السيادة لله وحده، وبأن أهل ملة الإسلام لا يملكون أن ينكروا هذه الحقيقة، غير أن هذا المفكر يدعونا إلى وجوب التمييز في الحديث عن السيادة بين معنيين اثنين. فأما المعنى الأول فذاك الذي يلزم المسلمين إقراره، أمما ودولا، وهو السيادة في معناها الأصلي. وأما المعنى الثاني فهو السيادة في معناها العملي، وهذا المعنى الثاني هو الذي تمارسه الدول، فلا معنى لوجود الدولة دون ممارسته؛ بموجب هذه السيادة العملية يجري الاعتراف بالدولة من قبيل المنتظم العالمي، بموجب السيادة العملية تكون للدولة حدودها المعلومة والمعترف بها، وليست الحكومة وإدارة الشؤون العامة شيئا آخر سوى ممارسة هذه السيادة، بموجب السيادة العملية هذه يدرك شعب من الشعوب أنه موجود، يحمل كل فرد من الأفراد المنتسبين إليه جنسية معلومة ويكون له جواز سفر، ويكون لبلده مقعد في منظمة الأممالمتحدة وفي المنتظمات والمنتديات العالمية، وبالتالي يكون له بموجب السيادة العملية صوت بين الأمم، وبحسب حال تلك الدولة يكون لها بين دول العالم صيت وذكر، يختلف ارتفاعا ونزولا باختلاف حرصها على التمسك بسيادتها وعلى احترامها. المغزى البعيد في هذا التمييز الذي يقيمه علال الفاسي بين السيادة الأصلية (ومرجعها إلى الله وحده)، والسيادة العملية هي القول بوجود التآلف والانسجام السعيد بين الأوامر الإلهية، ومقصد الشارع تعالى توخي مصلحة الإنسان (حيث كانت المصلحة فثم شرع الله، كما تقرر القاعدة الفقهية العليا)، وبين التدبير البشري للوجود السياسي للبشر وما يستلزمه ذلك التدبير مما لا يتعارض ألبتة مع الشريعة. وليس يحق لدولة من دول الإسلام أن ترضى بالوجود بين الأمم في حال تكون فيها سيادتها في حال من الانتقاص. استنادا إلى هذا المنطق الذي يقضي بالتمييز بين المعنيين (الأصلي والعملي) في الحديث عن السيادة، ندرك في سهولة ويسر تمييزا آخر يقضي بعدم التناقض بين الحديث عن «الأمة الإسلامية» والدول الإسلامية. فأما الأولى فرابطة روحية تجمع بين المنتسبين إلى الإسلام حضارة ودينا، والفرق بين الأمرين واضح. وأما الثانية فانتماءات ترجع إلى القانون الدولي وإلى المحددات الثلاثة التي صدرنا حديثنا اليوم بالتذكير بها. وإن من المفيد حقا، بل من باب إشاعة الفكر الإسلامي السليم والفهم الحقوقي الصحيح (الذي تعمل بمقتضياته دول المعمورة جميعا وتقره دساتيرها وقوانينها)، أن نمضي مع المفكر المغربي خطوة إلى الأمام فنقول بوجوب التمييز بين الرابطة العقائدية (وهذه تقوم بين دول الإسلام وشعوبها) والرابطة القانونية (وهذه تقوم بين المواطنين في البلد الواحد، وترجع - كما ذكرنا أعلاه - إلى السيادة العملية وممارستها على الوجه الكامل). من الطبيعي، ومن المعتاد أن يأتي التشويش على الفهم والخلط أو اللبس في المفاهيم من دواعي الخصومات السياسية، وليست الفعالية الآيديولوجية شيئا آخر سوى فعل التبرير من جانب، والتضليل من جانب آخر. تبرير الفعل للذات إذ تكون في حال من الشك والاضطراب، يود صاحبهما الإقدام على فعل أو سلوك، ولكنه يجد من نفسه حرجا وترددا، فوظيفة الآيديولوجيا آنئذٍ القيام بعمل التزيين والترغيب. أما التضليل فلا أظن أنه في حاجة إلى شرح وإبانة، فالخصومة الآيديولوجية تستوجب التشويش والتضليل، فذاك جوهر فعلها وغايته معا. لكن اللبس وممارسة التشويش الذاتي على الفكر يأتيان أيضا، بل ربما أساسا، من نقصان المعرفة أو من الفهم الضيق والتأويل الناقص الذي يحمل على الوقوع في الخطأ. ومن المؤسف أن نكون في عالمنا العربي أكثر عرضة للوقوع تحت طائلة هذا الصنف الثاني من الأسباب. "الشرق الاوسط"