واحدة من أهم صفات الدكتاتوريات في العالم هو خوفها من الثقافة. فهي ترى فيها العدو الأساسي الذي يجب تدميره بشكل نهائي وسحبه من المشهد المجتمعي العام. كان غوبلز وزير الدعاية النازية يقول: كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي. كان يدرك جيدا أن الثقافة هي الحرية عينها التي تنغص عليه سطوته، بالخصوص عندما تقدر هذه الأخيرة نبل قيمتها التي وجدت من أجلها، وهي التعبير الجمعي عما يتخفى تحت جلد المجتمع من مآزق. عدد كبير من المثقفين العرب كانوا ضحية لهذه الآلة الساحقة لأنهم اختاروا أن يكونوا صوت شعوبهم. من بين هؤلاء محمد سعيد الصكار، المثقف والفنان والخطاط والكاتب العراقي المعروف الذي كان ضحية مثالية لهذه الآلة الجهنمية التي لا ترحم كل من يقف ضدها حتى ولو خرج من رحمها. ليس الغرض هنا عرض تفاصيل منجز الصكار فهو معروف وكبير، ولكن استعادة ما فعلته الدكتاتوريات العربية بالفنانين والكتاب وبشعوبها، لهذا فزوالها اليوم غير مندوم عليه. ما هي القنابل التي عثر عليها في محفظة الصكار غير أقلامه وريشاته وحاسوبه القديم؟ ليجد نفسه يشق مناف قاسية لم يكن مهيأ لها أبدا؟ كل شيء بدأ بفكرة فيها الكثير من المحبة والنبل والمتلخصة في جهوده وأبحاثه واستماتته لحل مشكلة الخط العربي والعمل على جعله خطا يتناسب مع الكمبيوتر ليلتحق بالخطوط العالمية والتقليل من عدد الحروف الأبحدية بالخصوص وان الأبجدية العربية إلصاقية يتغير فيها شكل الحرف في البداية والوسط والنهاية. مما يجعلها طباعيا صعبة وشبه مستحيلة. وكان الامر يحتاج إلى عبقرية استثنائية مثل عبقرية الفنان الصكار لتخرج الأبجدية العربية من مآزقها. بعد سنوات من العمل الجاد فكر الصكار في اختصار الأبجدية كون هذه الأخيرة قائمة على الأصوات اللغوية وعلى اختزال أشكال الحروف، والبحث عن علاقات بَصًرية في ما بينها، مع الإحتفاء بالحالة الجمالية، والتماس قرائن الكرافيكية بين الحروف. وقد كان لتعمقه في حروف اللغات الأخرى، كالسريانية والفارسية والروسية واللاتينية، فائدة كبيرة سهلت عليه العمل عميقا على الحرف العربي كما صرح بذلك في حواراته الصحافية المكتوبة والمرئية. كما كان لاهتمامه بفن التصميم دور كبير في إيصال حروف الأبجدية إلى ما أحسّه من حضور شعري مبطن فيها. ذلك أن أي ممارسة في أي حقل من حقول الإنتاج تستحضر خبرة وتجارب الفنان في حقوله المعرفية المختلفة. وعندما أنهى المشروع وهو ما يزال في العراق، وسجله محليا وعربيا ودوليا ولم يبق أمامه ألا التنفيذ والتصنيع، جاء من يقترح عليه ضرورة الالتحاق بعضوية حزب البعث ولكنه رفض. فهو فنان أولا وأخيرا ولا علاقة لعمله بالسياسة. الامر لم يتوقف عند هذا الحد. فقد بدأ بعض الخبراء العراقيين في الخطوط التابعين للنظام والذين كانت الغيرة والحسد والأحقاد السياسية المبطنة أو المعلنة، تتحكم في الكثير منهم لتوقيف المشروع. وسرعان ما اتهم بتهمتين الواحدة منهما تقود صاحبها إلى المشنقة في الساحات العامة بتهمة الخيانة العظمى والتعامل مع العدو. في أشكال الخطوط رأى بعض هؤلاء القتلة السريين، مرجعية خطية عبرانية. النية طبعا كانت مبيتة وتنمّ عن جهل مدقع بتاريخ الخطوط بالخصوص عندما نعرف بأن العرببة والعبرية تنتميان إلى العائلة السامية نفسها. وتهمة ثانية لا تقل خطورة عن الأولى وهي الماسونية، بسبب روح وأشكال بعض الحروف العربية التي ابتدعها الصكار وكان عليه أن يدافع عن نفسه أمام صحافة تابعة لأقطاب النظام والجهل. حتى جاء الكاتب شفيق الكمالي المقرب من أجهزة النظام ليخبر الفنان بأنه في دائرة الخطر بشكل غير مباشر. فقد دافع عنه بوصفه فنانا وطنيا حقيقيا. فشكره الصكار عما قام به من أجله. ولكن إجابة شفيق الكمالي كانت واضحة وفهمها الفنان جيدا إذ فال له: لو نشرت كل ما وصلني من تقارير، لأعدمت في اللحظة نفسها. فهي كلها تقارير تدينك وتتهمك بالماسونية وأبعد من ذلك. فهم الصكار من تلك اللحظة انه عليه المغادرة. وكان قد غادر الحزب الشيوعي في 1962 حينما اصدر مجموعته الشعرية أمطار التي اعتبرها بعض الرفاق القياديين مسيئة لأنها تتحدث عن الحب وهو ما يذكر بالعقلية الجدانوفية المتسيدة التي تلحق الأدب بالسياسة والأيديولوجيا. نفس العقلية التي لا تفهم ان الفنان يحتاج أولا إلى أن يمارس حريته. وقد عبر عن ذاك بنفسه في أحد الحوارات الصحفية حينما قال: إن مجموعة (أمطار) منحتني لقب (شاعر الغزل) في الوسط الجامعي، كما أبعدتني عن الحزب الذي رأى فيها بعض رفاقي شيئا لا يليق بشيوعي ملتزم. وكانت حجتي على ذلك أشعار الشاعر الروسي (‘يبا'وف) الذي فاز بجائزة ستالين في زمن الحرب، على مجموعته الغزلية. وموقف الحزب من (أمطار) حملني على الاستقالة منه لأنني لم أستطع التوفيق بين حريتي والتزاماتي الحزبية، فبقيت شيوعياً بلا بطاقة. عندما غادر الصكار وطنه، منح مكتبته لأناس لا يعرفهم في الأغلب الأعم لكي لا يلتفت وراءه أبدا ويعود بعد زمن يطالب بها. ومات مشروع أبجدية الصكار الذي كان بإمكانه ان يختزل وقتا كبيرا على الطباعة العربية. إذ دمرت كل الوثائق التي كانت تحيل إلى المشروع. وغادر العراق في ظروف شديدة القسوة. ولكنه واصل فنه في الخطوط والإبداع في المنفى الباريسي وأنجز أبجديته الخاصة. لم يكن المنفى جميلا لانه حرمه في النهاية من شيء عميق هو تربته التي يرتديها، لكن هذا المنفى نفسه منح الصكار حياة أخرى، وهو يعترف لباريس على ما منحته إياه من إمكانات فنية وجمالية جعلت منه واحدا من أكبر ليس الخطاطين العرب فقط، ولكن المثقفين أيضا. ومع ذلك انتهى الطغاة الذين استعبدوا شعوبهم في ظروف تراجيدية وبقي الفنان الحالم دوما بعالم أفضل حيا حتى ولو سرقت الشرطيات القاسية شبابه ولكنها مع الزمن تحولت إلى سكينه ومصالحة مع الذات. لأن أحلام الفرد في مثل هذه الحالات غير مهمة بقدر ما تهم أحلام الناس المؤجلة، فهو كما يقول، يراقبها ويتابعها عن كثب بل وينخرط في بعضها عندما كانت الصحة تسعفه. يرقد اليوم هذا الفنان الكبير في احد مصحات باريس بعد ان أنهكته سنوات القسوة، لكن في عينيه بريقا كبيرا من النور والحياة الذي لا يخفت أبدا. ثمانون سنة مضت وما يزال طفلا يغرق في الألوان ويجمع الطوابع البريدية ويجلد الكتب بالشكل الذي يشتهيه. ولا شيء فيه تغير. أناقته هي هي، وقلبه الكبير هو هو وابتسامته الناعمة هي هي.