تواجه الأنظمة التي تتولي شؤون الحكم في دول الثورات العربية صعوبة هائلة في بحثها عن شرعية ضرورية لها. تقول الحقائق، أو على الأقل الظاهر لنا منها حتى الآن، إن اليمن لم يفلح بعد في تحقيق استقرار مناسب أو توافق شعبي يسمح باستئناف البحث عن سند شرعي لحكم ما بعد الثورة، وأن تونس، وقد تقدمت على طريق البناء الديموقراطي درجة أو درجتين، ما زالت الصعاب فيها منتصبة والشكوك متبادلة بين أطراف الحكم. في مصر، كما في الدول الثلاث الأخرى التي دخلت تجربة الثورة الربيعية، تقف بالمرصاد لكل تقدم تحققه جهود تنفيذ خريطة الطريق، مشاكل شديدة التعقيد وبعضها مرشح للتفاقم. من هذه المشاكل على سبيل المثال، مشكلة تمثيل جيل الشباب، أو بدقة أشد وصراحة أوفر، مشكلة اعتراف الحكام الجدد بدور الشباب في صنع ثورة 2011، وإن أردنا درجة قصوى من الدقة ومستوى أعلى من الصراحة، فهي مشكلة الصدام الناشب حالياً والمتصاعد تدريجياً بين من يزعمون -عن يقين أو عن جهل وشماتة- أن الثورة كانت عملا تآمرياً خططت له جهات أجنبية واستخدمت الشبان أدوات لتنفيذه، وبين من يعتقدون عن يقين أيضاً وربما بعض الشماتة، وعن تجربة ميدانية، أن الثورة كانت عملاً من صنع شعب وطلائعه من الشباب، ضد نظام شاخ في الحكم وتكلس واستبد وتمكن منه الجهل وتدهور الكفاءة. يخطئ من يتصور أن المشكلة تقتصر على مصر، فالصدام واقع منذ الأيام الأولى للثورة في تونس وليبيا وسورية واليمن، كما هو واقع في مصر. ويخطئ من يستسهل الأمر فيحيله مع عواقبه على ذهنية «عربية» مثخنة بنظريات المؤامرة. الحجة هي أن لا ضرر عاد علينا من استمرار اقتناعنا بدور المؤامرة في صنع تاريخنا الحديث، ولا داعي للقلق على المستقبل ولا خوف على مسيرة التقدم الديموقراطي والحضاري في بلاد الثورة والبلاد العربية الأخرى المرشحة للتغيير القادم إذا اقتنعنا بأن للمؤامرة دوراً في نشوب ثورات الربيع. عشنا ستين عاماً أو يزيد في ظل نظام إقليمي عربي يدين بنشأته إلى عملية استعمارية نفذتها بريطانيا وفرنسا بدعم من بقية القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. عشنا «المؤامرة» واعتنقنا قواعدها حين تمسكنا بالحدود السياسية التي رسمتها حكومتا لندن وباريس لشعوبنا وأقطارنا. نظمنا الأناشيد الوطنية لتمجيدها ورفعنا راياتها وكتبنا لها الدساتير. أقمنا الحكومات ثم دبرنا ضدها الانقلابات العسكرية وأشعلنا في ما بينها الحروب الأهلية والإقليمية. جربنا كل شيء يمكن أن يثبت أننا تبنينا بكل الرضا «المؤامرة» أساساً لشرعية وجودنا السياسي في هذا الجزء من العالم. لم يتخل الفكر السياسي العربي خلال هذه المرحلة من مراحل تطور المنطقة عن «مسلّمة» أننا كعرب كنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا، ضحية أو ثمرة لمؤامرة كونية عظمى. تمسكنا بالمؤامرة، أو بهذه الخريطة، حكاماً ومحكومين، لم تشبع أطماع الطبقات الحاكمة ولا طموحات قطاع من المفكرين السياسيين، وبسببها دخلت دول المنطقة في صدامات، نتيجة التراوح بين التمسك بالمؤامرة وما قررته من حدود سياسية والرفض الكامن لها. ما أطلقنا عليه صفة المؤامرة كان من أهم الأسباب التي جعلت المنطقة بأسرها تعيش قرناً ملتهباً دائما بالعنف والتمرد وعدم الاستقرار السياسي والاستبداد، وبغيرها من العناصر التي نسجت شبكة التخلف الحضاري، وهي الشبكة التي نشبت لنسفها ثورات الربيع العربي. اشتعلت ثورات الربيع، وفي ذيولها سرت كالنار في الهشيم مزاعم أو روايات عن «مؤامرة» كونية ثانية. تتلخص المزاعم والروايات في حكاية عن جهود أميركية وأوروبية، لتدريب شباب عرب على أساليب حديثة في فن إثارة الشعوب وحثها على الخروج في تظاهرات تدعو للديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وعدالة اجتماعية. الحكايتان عن المؤامرتين قصيرتان، فحكاية سايكس- بيكو لم تتجاوز كونها وثيقة قصيرة تسجل اتفاقاً بين رجلين يمثلان إمبراطوريتين يقسّمان في ما بينهما منطقة فقدت حماية أو هيمنة سلطة عثمانية هيمنت عليها أو تولت حمايتها مئات السنين. كذلك جاءت قصيرةً الحكاية عن مؤامرة إشعال ثورات في دول عربية بعينها، بحجة أن الديموقراطية كادت تنتصر في العالم بأسره، ولم يبق إلا الشرق الأوسط وقليل من الدول، وأن التاريخ انتهى بشكل أو بآخر حين اختارت الطبقات الحاكمة مبادئ الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وأن المطلوب بشدة وفوراً في العالم العربي هو تحريره من قيود نظم ديكتاتورية أو قبلية وعائلية ومن أغلال رأسمالية الدولة ومن التطبيقات الاشتراكية. لذلك جرت التجربة الأولى في شرق أوروبا في أعقاب سقوط الشيوعية. قرأنا وقتها عن جهود مركزة لتدريب شباب من أوروبا الشرقية على أساليب إشعال الانتفاضات. وربما تقرر وقتها أن تكون الدول العربية مسرحاً للتجربة الثانية. وفق الرأي السائد بين بعض قادة الثورة المضادة وحلفائهم من «العقلاء الجدد»، فإن الجهد الوطني والقومي خلال السنوات المقبلة يجب أن يركز على مهمة «تفكيك» المؤامرة الكونية الثانية، وهي المؤامرة التي «أثمرت فوضى شاملة تحت عنوان ثورات شعبية» في أكثر من دولة عربية. تتعلق المهمة الملقاة على عاتق جماعات الإنقاذ في كل دولة من الدول التي أصابتها المؤامرة بضرورة إضعاف أدوات المؤامرة والقوى التي اعتمدت عليها، وبخاصة المجتمع المدني المحلى. تتعلق أيضاً بتقليص العلاقات مع منظمات المجتمع المدني العالمية، إن أمكن. وتتعلق بالعمل المتدرج من أجل إقصاء فئة «الشباب» وفئة «المرأة» عن القيام بدور فعال في مرحلة استعادة أبنية وهياكل عهود ما قبل الثورات الشعبية، يتحدثون بحرارة وغيظ عن الشباب والمرأة، باعتبارهما الفئتين اللتين لعبتا دوراً ملموساً وجوهرياً في الثورة، وفي الوقت نفسه الفئتين اللتين استفادتا من الثورة، فكراً وثقة بالنفس وإمكانات حركة ونشاط، أكثر من أي فئة أخرى في مجتمعات الثورة، باستثناء بعض قوى الإسلام السياسي. أعلم عن ثقة أن أعضاء تحالفات استعادة سلطة «الدولة» وهياكل ما قبل الثورة عازمون بثقة وإصرار على إحباط «المؤامرة»، ولكنهم مدركون لحقيقة أن هذه المهمة، مهما بلغت ضخامة الحشد المعد لها، لن تكون سهلة للأسباب التالية. أولا: صعوبة التوفيق بين حاجتين ضروريتين لحكومات الأجل المنظور في دول الربيع العربي: الحاجة إلى الاستناد للثورة كمصدر لشرعية وجودها رغم كراهيتها أو تحفظاتها عنها، والحاجة إلى حملة حشد متواصلة ضد «المؤامرة» التي مهدت للثورة وضد القوي والجماعات والشخصيات التي شاركت فيها. ثانياً: رغم كل أحاديث المؤامرة تبقى حقيقة ناصعة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، وهي أن الإنسان العادي في بلاد الثورة تغير. لا يعني هذا بالضرورة أنه سيفضل النزول إلى الشارع والاعتصام بالميادين كل حين ضد إصرار الحكام الجدد على رفض التغيير أو تعمدهم البطء في تنفيذه، ولكن يعني وبالضرورة أيضاً أن هذا الإنسان لن يقتنع بنظرية «الثورة– المؤامرة»، وبالتالي ستظل لديه شكوك حول كل ما ستطرحه الحكومات من سياسات خلال المرحلة المقبلة. وفي كل الأحوال، ومهما طاوله من قمع أو جهود استرضاء ومسكنات مادية، لن يعود إلى سابق عهده قبل الثورة، لن يعود مواطناً لا يهتم بالحقوق والحريات أو منعدم الثقة في قدرته على إسقاط حكامه إن هم حادوا عن طريق أحلامه وطموحاته التي صنعتها الثورة. ثالثا: أدركت أجهزة الأمن، ليس فقط في عالمنا العربي بل وفي روسيا والصين ودول في أوروبا، أنه أصبح من الصعوبة بمكان إسكات، أو حتى إقناع مواطن يحمل هاتفاً ذكياً، ففي تجربة الثورة اتضح أن الهاتف الذكي يمكن أن يكون أقوى مفعولاً من السلاح الناري في مقاومة السلطة المستبدة والتصدي لقوي القمع. رابعا: تحتاج مهمة تشويه سمعة الثورات العربية والاشتباك مع نظرية المؤامرة إلى جهود ديبلوماسية مكثفة لتوحيد الصف العربي ضد التدخل الأجنبي عموماً وضد الولاياتالمتحدة بخاصة. واضح الآن أن دولاً عربية كثيرة لا تخفي استياءها من مواقف الولاياتالمتحدة التي أساءت إلى استقرار وأمن حكومات دول عربية غير قليلة، وبعضها من أقرب الحلفاء. هذه الدول قد تكون مستعدة لدعم سياسات تعكس غضب دول عربية على الولاياتالمتحدة المتهمة بصنع المؤامرة، ولكن بشرط الحرص على ألاّ تعود المنطقة العربية إلى حال الاستقطاب الذي ساد خلال سنوات الحرب الباردة والمد القومي. خامسا: لم يفلح مروجو حكاية المؤامرة، حتى الآن على الأقل، في صياغة حبكة مقنعة لحكايتهم، على عكس مروجي حبكة حكاية مؤامرة سايكس بيكو، التي استندت إلى وثيقة رسمية وتصديق من المجتمع الدولي ووقائع ثابتة على أرض الواقع. المؤامرة الثانية لا تستند إلى وثائق دولية. أقصى ما استندت إليه لا يزيد عن عبارات تحمل معاني متعددة وردت في تصريحات أو خطب لمسؤولين أميركيين، هؤلاء لم ينكروا يوماً سياسة أميركا المعلنة تجاه تشجيع إقامة أنظمة حكم ديموقراطية في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط. قرأنا وسمعنا ما يردده بعض الذين اعتبروا أنفسهم خبراء في الإستراتيجية والأمن والمؤامرات الدولية. تحدثوا، وبحماسة وثقة عن المؤامرة الأميركية لإشعال ثورات الربيع، إلا أن لا أحد منهم قدم دليلاً واحداً ملموساً يبرهن على أن مؤامرة دولية حيكت أو تحاك برضا العسكريين الأميركيين لخلخلة الاستقرار في الشرق الأوسط عن طريق تفكيك سورية إلى دويلات، لتكون نموذجاً يحتذى في بقية أنحاء العالم العربي. مقدر لنا كشعوب عربية أن نعيش أجواء مؤامرات كونية، الواحدة بعد الأخرى، نلعنها معظم الوقت ونعلق عليها قصورنا وهزائمنا. نكره الاعتراف بأن واحدة منها ساهمت في توحيد قبائل وطوائف شتى تحت سقف دولة أو أكثر، وأن واحدة أخرى، إن ثبت وجودها، ساهمت في تغيير الإنسان العربي نحو الأفضل إنسانياً وسياسياً، وحررت إرادته في مواجهة قوى القمع والظلم الاجتماعي والهيمنة الخارجية. "الحياة" اللندنية