رب ضارة نافعة!.. تنطبق هذه المقولة إلى حد بعيد على أحدث التوترات التي عرفها المجلس الوطني التأسيسي التونسي في الأيام الأخيرة. ذلك التوتر الذي نتج عن ممارسة العنف الرمزي الكلامي بين نائبين في المجلس. فالنائب الأول وهو السيد الحبيب اللوز، المنتمي إلى حركة النهضة، كان قد صرح في إحدى الإذاعات التونسية بأن النائب المنجي الرحوي المنتمي إلى حركة الجبهة الشعبية معروف بعدائه للإسلام. وتطور الموقف إلى حد صدور فتوى ضد النائب المعتدى عليه رمزيا تنص على قتله خلال 48 ساعة! هذا التوتر، الآيديولوجي الجوهر والمضمون والعنيف المظهر والشكل والآليات، لم يمر مرور الكرام رغم تراكم الخلافات والظرف الوطني والاقتصادي الدقيق. بل إنه كان حجة قوية ودامغة لإصرار الكتل المعارضة داخل المجلس الوطني التأسيسي على ضرورة تجريم التكفير في الدستور التونسي الجديد الذي هو بصدد وضع لمساته الأخيرة ليكون جاهزا خلال أيام معدودة. إذن، الضارة هي حادثة التكفير هذه، والنافعة هي إدراج تجريم التكفير في متن فصول الدستور الجديد. ولولا حادثة العنف الرمزي، لما جرى تصديق المجلس الوطني التأسيسي على تعديل الفصل السادس من الدستور وإضافة هذه الجملة: «تجريم التكفير والتحريض على العنف». وأول ما يمكن ملاحظته، أن هناك نوعا من التفاعل الإيجابي بين الواقع السياسي وكتابة الدستور، وهي نقطة مهمة، تعكس استفادة الدستور من الواقع وما يتخلله من أخطاء وعنف وزلات لسان؛ أي إنه دستور يتفاعل وفي تواصل عميق مع الأحداث، ويستند إلى منطق أن ما يجري اليوم قد يجري غدا. لذلك، فإن عملية كتابة الدستور لا تخلو من مخاض يجمع بين العلاج والوقاية معا. وإلى جانب مسألة التفاعلية هذه، نعتقد أن تونسالجديدة تحتاج إلى مثل هذا التعديل المهم والضروري. ذلك أن تعدد الآيديولوجيات والخلفيات تنتج عنه بالضرورة خلافات قوية في المقاربات والتصورات. ودرءا لدخول النخب التونسية في أتون حروب التكفير الخطيرة، من المهم أن يكون الدستور ضامنا لحق الاختلاف وحق الدفاع ضد كل من يعمد إلى التكفير، أو يتفوه بما من شأنه أن يكون تحريضا على العنف. طبعا، قد يرى البعض أن تصريح نائب في وسائل الإعلام بأن زميلا له معادٍ للإسلام يمكن أن يدرج في إطار حرية الرأي وأنه لا يعني بالضرورة التكفير؛ أي إن الشخص يمكن أن يكون معاديا للإسلام أو للعولمة أو لإسرائيل أو لأي فكر أو آيديولوجيا أخرى. وهو كلام في الحقيقة ينطوي للوهلة الأولى على جانب من الصواب والمنطق. ولكن، ما جعل التأويل ينحى منحى التكفير هو صدور فتوى ضد النائب الذي اتهم بكونه معاديا للإسلام. إضافة إلى ذلك، يبدو لنا أن للسياق أحكامه وقوانينه وشروطه. فالسياق الذي تعيشه البلاد بعد دخول الإسلام السياسي على الخط وظهور السلفية الجهادية وتكرر عمليات الاغتيال السياسي، جعل تفسير مثل هذه التصريحات واستنادا إلى حكم السياق والأحداث، إنما يندرج آليا ضمن سياق التكفير والتحريض على العنف. أيضا عناصر أخرى أدت إلى حالة من اليقظة المدنية والحقوقية والسياسية. ذلك أن النائب المتهم بعداء الإسلام ينتمي إلى حزب «الوطنيين الديمقراطيين» الذي كان ينتمي إليه «شهيد تونس» شكري بلعيد، إضافة إلى أن النخب الحداثية في تونس صارمة جدا في مثل هذه التهم وواعية تماما لخطورتها على الفكر والمجتمع والبلاد. أما العامل الآخر الأساسي، فهو يعود بالأساس إلى شخص السيد الحبيب اللوز. فهو من جهة رجل قيادي في حركة النهضة ونائب لها في المجلس الوطني التأسيسي. كما أنه محسوب على جناح الصقور داخل الحركة. إضافة إلى كونه تولى رئاسة الحركة في 1991 وترأس مجلس الشورى بين سنتي 1980 و1991. ومن جهة أخرى، يعد الحبيب اللوز على امتداد السنتين الماضيتين صاحب تصريحات خلافية، منها موقفه الإيجابي الذي أحدث ضجة من قضية ختان البنات وأيضا تصريحه في إحدى الصحف منذ أشهر قليلة بأنه لو كان شابا لذهب للجهاد في سوريا، وذلك في سياق معارضة اجتماعية وسياسية لظاهرة تصدير الشباب التونسي للجهاد في سوريا. ومن ثمة، فإن مكانة نائب حركة النهضة داخل حركته وثقله التاريخي والسياسي الحركي والتنظيمي جعلا من كل كلمة يتفوه بها محل اهتمام وتفاعل وجدل. لذلك، فإن كل هذه العوامل المذكورة قد أعطت لتصريح خطير على موجات إحدى الإذاعات حجما سياسيا وحقوقيا كبيرين فكانت النتيجة دسترة تجريم التكفير، في خطوة نعتقد أنها أساسية لقطع دابره من المجال العمومي لتونس المتعدد والمدني، وكي تراقب النخب التونسية كلامها جيدا وتفهم كم هي اللغة حمالة للمعاني وللعنف الرمزي وكم هي الآيديولوجيا مولدة للتكفير والتخوين ومهيمنة على التصورات والتمثلات والمواقف وأنماط السلوك. "الشرق الاوسط"