الوضع في مصر منذ مئات السنين يعكس الوضع في الوطن العربي. بل الحقيقة هي أيضاً أن الوضع في الوطن العربي يعكس الوضع في مصر طوال هذه الفترة التاريخية الطويلة. إنما الحقيقة الصارخة في أيامنا هذه أن كلا الانعكاسين يتحقق الآن بصورة ربما لم يسبق لها مثيل منذ البداية. وحتى لا نبقى في إطار التجريد للحقائق التاريخية، يمكننا التأكيد بأن أحداث مصر الأخيرة التي تدور فيها الحرب ضد تنظيم «الإخوان المسلمين» تمثل انعكاساً او بداية لأحداث الوطن العربي حيث تدور دائرة الصراع ضد «الإخوان». فمن الواضح منذ الآن أن الهزيمة التي بدأت تلحق ب«الإخوان» في مصر هي بداية في الوقت نفسه لهزيمة هذا التنظيم في الوطن العربي. وليس خافياً أن «الإخوان» يدركون هذه الحقيقة عن بداية نهايتهم، بدليل انهم يتمركزون الآن خارج الوطن العربي في بلدان غربية .. في اميركا وفي اوروبا حيث لا مستقبل لهم. لقد كشفت الأحداث وفضحت تبعياتهم وعمالاتهم الخارجية كما لم تكن مكشوفة من قبل. ونعني بتعبير «من قبل» هنا قبل ان يصعدوا الى السلطة في مصر، وهو أول صعود لهم اليها في الوطن العربي. و«الإخوان» لم يسبق لهم أن سعوا الى السلطة في أي من البلدان العربية ولا حتى في اي من البلدان في العالم الاسلامي. وعندما لاح ان الصعود الى السلطة ممكن في مصر بدا لهم ان الصعود الى السلطة ممكن في اي من بلدان الوطن العربي، وهم مع ذلك لم يلوحوا بمحاولة الصعود اليها في العالم الاسلامي. ولا يعدو ان يكون ما يجري من صدام في مصر بين «الإخوان» وأضدادهم ان يكون دليلاً على إصرارهم على التمسك بالسلطة بصرف النظر عن طبيعة معتقداتهم الدينية والعقائدية، والتناقض الحاد بينها وبين الواقع التاريخي والسياسي والثقافي في مصر على وجه التحديد. ولا يمكن العبور على هذه النقطة بشأن الصراع «الإخواني» في مصر من دون التأكيد على الوجه الآخر للحقيقة، وهو ان الأحداث الأخيرة التي لعب فيها «الإخوان»، ولا يزالون يحاولون أن يلعبوا، دور الطرف المقاوم للسلطة القائمة، كشفت فعلياً ما لم يكن مكشوفاً من قبل، وهو أن اميركا تدعم «الإخوان» وتنظيمهم ونشاطهم بكل اساليب الدعم وتكاليفه، فضلا عن التأييد السياسي والمعنوي، وهو امر لم يكن ملحوظاً من قبل لا على السلوك «الإخواني» ولا على السلوك الاميركي الرسمي. وفي هذا الإطار فإن الثمن الذي دفعناه حتى الآن لكشف «الإخوان» لا يتجاوز الحدود المقبولة في صدام من هذا النوع مع تنظيم له حجم تنظيم «الإخوان»، خاصة مع امتداد العمر به منذ نشأته الاولى قبل 85 عاماً. مع ذلك لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار عند بحث هذه النقطة ان الصراع ضد «الإخوان» في مصر قد كلف المصريين مئات الارواح، وهو ثمن باهظ بكل المعاني والمعايير. إنما نعود فنؤكد أن الصراع الذي خاضته مصر ضد «الإخوان» كان له حتى الآن فائدة كبرى هي انه كشف كل الأقنعة التي اختبأ وراءها هذا التنظيم، بما في ذلك ضعف قدراته وضعف تأثيره في غياب تقدير سليم من جانب «الإخوان» وقياداتهم لحجم التأييد الذي يلقونه من الجماهير الشعبية المصرية. فضلا عن ان الصراع ضد «الإخوان» في مصر استطاع حتى الآن ان يكشف الكثير عن التنظيم الدولي، الذي لا يعدو ان يكون بمثابة التنظيم الخارجي للجماعة. فإن صفة الدولي تبدو فضفاضة عليه من جميع النواحي. ان ما تكشف من أسرار «الإخوان» نتيجة للصراع في مصر لا يخص «إخوان» مصر وحدهم إنما يشمل «الإخوان» حيثما كانوا، ابتداءً من وجودهم في التنظيمات الفلسطينية (غزة بصفة خاصة) بحكم العلاقة الوثيقة مع مصر وبحكم دور غزة في القضية الفلسطينية. وهو دور تحول من هذه القضية الوطنية البالغة الاهمية الى قضية «الإخوان» ودورهم. وإذا ما تحولنا الى تقييم دور مصر في زعزعة موقف «الإخوان» ومركزهم، الى درجة حولتهم الى جماعات صغيرة تثير القلاقل في شوارع المدن المصرية، فإننا نتبين بلا عناء ان «الإخوان» قد سقطوا. كما نتبين ان سقوط «الإخوان» وهو حقيقة واقعة انما يُعدّ الإنجاز الأكبر للثورة المصرية حتى الآن. وصحيح ان هذه الثورة مستمرة في أداء دورها ولكن الصدام مع «الإخوان» عطل بعض مسيراتها. لقد أخذ من اهتمام القوى الحاكمة، وليست كلها ثورية، نصيباً لا يمكن الاستهانة به. كما لا يمكن الاستهانة بالدور الاميركي في دعمه، على الرغم من التراجعات الملموسة التي اظهرها الموقف الاميركي خلال الاسابيع الاخيرة. وليس بالإمكان النظر بعين الشك الى التقارب المصري - الروسي، والتقدير الموضوعي لأهميته باعتباره مواجهة اعتبرتها السلطة المصرية الحاكمة ضرورية لإفقاد الولاياتالمتحدة شعورها بأنها الطرف الأوحد الدولي المؤثر على المنطقة ومصر بصفة خاصة. وذلك من دون حاجة تفتقد الى التبرير للنيل من العلاقات المصرية - الاميركية في الجوانب المستمرة منها. وهو ما لم يطلبه القادة الروس كمقابل او كشرط لدعم العلاقات مع مصر. فاذا ما اعتبرنا ان سقوط «الإخوان» - بصفة خاصة كتنظيم سياسي مسلح ومدرب هو الإنجاز الأكبر للثورة المصرية، خاصة في تجلياتها السياسية الرامية الى تحقيق الاستقرار اللازم لمواصلة طريق الثورة والديموقراطية، وهو طريق الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاستراتيجية ايضاً، فهل نعتقد ان الثورة تقف عند هذا الحد بانتظار ان تخلو اجواء مصر السياسية من العوائق والعقبات التي لا بد من اعتبار «الإخوان» الخالقين الاساسيين لها في طريق الثورة، اي في طريق عدوهم الرئيسي. إن التوقف بالثورة عند هذا الحد هو مطلب «الإخوان»، ويعتبرون انه طريقهم الوحيد الى السلطة. ولا بد عندما نقول هذا ان نؤكد انه اعتقاد «الإخوان» وليس فقط مطلبهم. ولهذا فإنهم لم يخوضوا بل لم يحاولوا ان يخوضوا حرباً مماثلة ضد نظام مبارك على مدى ثلاثين عاماً قام خلالها بين الطرفين وئام وسلام لمعظم الوقت الذي بقي فيه مبارك رأسا للسلطة. وذلك في ما عدا الفترات القليلة التي لم تستغرق اكثر من اسابيع او أشهر قليلة كانوا يحاولون فيها استعراض قدرتهم على استخدام القوة المسلحة. أما الآن فإنهم لا يملكون هذه الفرصة ولا نسبة قليلة منها. لقد استطاعت الثورة المصرية الحالية وبتأييد صريح ومباشر من الجيش ان تحطم قوة «الإخوان» المسلحة والمدربة وأن تحولهم الى عصابات صغيرة تحاول ان تثبت وجودها في مجال لا يتسع لهم في وجود الجيش، الذي برهن على إدراكه التام والواضح لما يريده منه الشعب في ما يتعلق ب«الإخوان». وصحيح ان الصحافة المصرية تناولت في الآونة الاخيرة ما وصفته بأنه «مخطط يهدف الى إسقاط مصر» (على سبيل المثال تصريحات وزيرة الاعلام المصرية الدكتورة درية شرف الدين لصحيفة «المصري اليوم» في الاول من كانون الاول الحالي)، إلا انه من قبيل الابتعاد عن الواقع بأوسع المسافات ان نظن ان مصر قابلة للسقوط تحت اية قوى او ضغوط. ولو ان الولاياتالمتحدة تحديداً اعتقدت بإمكان حدوث هذا لاعتبرت نفسها اكثر جدارة بأن تحقق هذا الهدف في الظروف الراهنة، ولما تراجعت بسرعة ولمسافة بعيدة عن العمل ضد مصر. وفضلا عن ذلك فإنه ليس مثل هذا الاحتمال الخيالي وارداً في ظل ظروف لا تملك فيه القوى الخارجية سوى تنظيم «الإخوان» لاستخدامه لتحقيق هذا الهدف الموغل في الخيال. إن الحديث عن هدف يُطلق عليه «إسقاط مصر» لا يتجاوز أبداً حدود الخيال بل الهلوسة الذهنية. وفي هذا الإطار فإن سقوط «الإخوان» هو الإنجاز الأكبر للثورة حتى الآن. وفي مصر البداية لنهاية «الإخوان». "السفير" اللبنانية