كأنما المؤكد بحاجة، من حين لآخر، إلى تأكيد، أو ربما إعادة تذكير. انطباع انتهيت إليه مساء الاثنين الماضي بعد مشاهدة فيلم وثائقي عرضته قناة التلفزيون البريطاني 5 بعنوان «سبعة أيام صنعت الفوهرر»... (7Days That Made The Fuhrer). المفارقة، أن الانطباع ذاته شعرت به صباح ذلك النهار أيضا، لمجرد أن طالعت عنوان مقالة روبرت فيسك في «الإندبندنت»: «السم الحقيقي موجود في إرث عرفات»..The real poison is to be found in Arafat›s legacy))، إذ اتفقت مع العنوان ثم اختلفت مع الكاتب في الأبعاد التي ذهب إليها لجهة تشخيصه سلبيات إرث عرفات السياسي. لكن، أين الرابط بين مشاهدة المساء ومطالعة الصباح؟ الجواب: الاستبدادية (TYRANNY). قبل أن يقفز أحد معترضا بغضب، أوضح أنني لا أقصد وضع كل من أدولف هتلر وياسر عرفات في سلة واحدة. بالتأكيد، كلا. لكنْ، كلاهما يلتقيان مع عشرات، ربما مئات، من السياسيين والزعامات الذين نشأ الشعور الوطني عندهم بشكل طبيعي ثم تطور (evolved) إلى حالة استبدادية استبدت بالواحد منهم، فصارت صورة ذاته حاضرا عبر الممارسات اليومية، ومستقبلا في كتب التاريخ، تسبق ضرورات مصلحة من يقودهم، حاضرا ومستقبلا. إذ ذاك، يكون الشعور الوطني لدى الزعيم قد دخل في العمق (deep down) حالة عشق للذات، لكنه يصر على إنكارها، ويصير سلوكه اليومي على المستوى الشخصي، سواء في محيطه الخاص أو أمام الملأ، هو الجسر الذي تعبر عليه صورة زعيم شديد البساطة، فهو يعيش حياة خشنة، متقشفة، زاهدة، وإذا تطلب الأمر ربما تكون ورعة، ثم هو أغضب الناس جميعهم إذا أحس بأنهم غاضبون لشيء ما، وهو أكثرهم حزنا إذا لمس أنهم محزونون لسبب ما، وأرقهم حنانا أمام موقف يتطلب التعاطف، خصوصا مع الأمهات والأطفال أو المسنين، كل ذلك ممكن طالما - من جهة - يثبت للكل من حوله أن لا أحد يمكنه المزايدة عليه في حب البلد والشعب، ولكنه في الآن نفسه يثبت حالة عشق للذات استوطنت الزعيم فاستبدت به، ومن ثم - بالنتيجة - سوف تتحكم في مآل من يحكم أو يقود. أبو عمار رجل لبس تلك الحالة في شخصية الزعيم المسكون بهاجس صورة تقوم على النقاء الكامل في أذهان الناس المعاصرين لزعامته، ومن أجل لمعان دائم لصورته تلك، لم يكن مستعدا للإقدام على أي خطوة تحمل أي مخاطرة من شأنها أن تخدش الصورة ولو بعد قرون. على المستوى الشخصي، رأيته يعيش حياة شديدة البساطة، يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل، يرتق ثوبه بنفسه، يتناول من الطعام قليله، ولا شك في أن صحافيين كثيرين غيري رأوا ذلك أيضا من قرب، لكنني رأيته أيضا شديد الغضب إزاء أي اعتراض سياسي، وعد التعارض مع موقف فلسطيني ما بمثابة الموقف المضاد له كزعيم. حتى في المقابلات الصحافية، كان يرفض التسليم بوجود إمكانية لتصرف أفضل في إدارة بعض الأزمات، أو حتى الجوانب الإدارية الخاصة بالتعامل مع طلبات تخص موظفي مكاتب ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. سألته في مقابلة أجريتها معه في تونس عن ضرورة موافقته الشخصية على كل إجراء يخص - مثلا - عائلة أسير أو شهيد، فقال: «نعم»، ثم أشار إلى مجموعة أقلام ذات ألوان مختلفة في جيب سترته، مضيفا: «يجب أن أوقع بقلم من هذه على كل معاملة». وفي مقابلة أجريتها معه في صنعاء، سألته عن التذمر داخل تنظيم فتح إزاء فساد بعض الكوادر القيادية، فانتفض غاضبا ينفي وجود أي تذمر أو فساد. وسمعته مرة في طرابلس (ليبيا) يقر بوجود فساد مالي بين عاملين في بعض مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، ثم يرد بالقول: ماذا نعمل؟ نرسلهم ممثلين للمنظمة فيتحولون إلى ممثلين للدول داخل المنظمة. عبارات عدة رددها أبو عمار اقترنت به، لعل أشهرها عبارة «يا جبل ما يهزك ريح»، وهو بلا شك كان يعني الثورة الفلسطينية، لكن الأرجح أن الجبل في قرارة نفسه كان هو ذاته، وهناك رده الشهير، إذا كان رائق المزاج، على أي انتقاد لأي من مواقفه السياسية: «ملاقوش في الورد عيب.. قالوا له يا أحمر الخدين». كما هو معلوم، الورد جسر الوصل بين كل العشاق، ولست أرى في عشق ياسر عرفات لفلسطين أي عيب، أما إذا تذكرنا أن «من العشق ما قتل»، فلا مبالغة في اعتبار أن شخصنة ذلك العشق قتلت حلم ياسر عرفات نفسه في حكم دولة فلسطينية مستقلة، إذ لم يستطع التعامل مع ظروف ومعطيات واقعية على حساب صورته الساكنة في أعماق نفسه، فانتهى العاشق ومعه الحلم، إن بالبولونيوم أو من دونه. مرة أخرى، ليس القصد التشكيك في صدق الأحاسيس، إنما صدقيتها لا تنفي توظيفها في صالح تكريس زعامة الزعيم، والحيلولة دون مطامح أي أحد يرنو إلى الجلوس على كرسي الرجل رقم واحد. وهو ما يعيدني إلى جوهر ما كتبت الأسبوع الماضي: تلخيص الوطن في شخص الزعيم. حصل هذا مع ياسر عرفات ومع غيره، ولا يزال يحصل، وطالما استمر رفض أي قائد سياسي وجود من يحب الوطن مثله تماما، وإنما من منطلق مختلف، أو برؤى مغايرة، سيظل استبداد حب الذات في أعماق ذلك القائد، يحكم مواقفه ليس فقط تجاه الدول والساسة، وإنما أيضا إزاء مصالح أهل البلد الذي يحبه، وأهله الذين يحكمهم. في تقديري، تلك بعض سلبيات إرث عرفات السياسي التي أضرت به وبفلسطين، وليس ما عده روبرت فيسك «تنازلات» أوسلو وثقته بإسرائيل وأميركا. أما استبدادية أدولف هتلر التي سكنته طفلا ذا نرجسية ولدتها خصوصية تعامل أمه معه وقسوة أبيه عليه، وتجذرت فيه شابا، ثم زعيما للحزب النازي، فهي قصة مختلفة تماما، لكن جوهرها بسيط: تحت سقف أي بيت قد يولد نجم مبدع، أو يبدأ مشوار مستبد بشع. "الشرق الأوسط"