عندما نتحدث عن هوية شيء من الأشياء فنحن نعني الملامح والسمات التي ينفرد بها هذا الشيء عن غيره، ويتميز بها عما سواه. والحديث عن هوية مصر يبدأ من موقعها الجغرافي الفريد، أو ما أسماه جمال حمدان: عبقرية المكان الذي يتعامد عليه الزمان في تعاقب قرونه وحقبه. ولذلك فهوية مصر هي ناتج تفاعل الحقب التي مرت عليها جميعا. وليست هذه الهوية بالتأكيد هي ناتج حقبة بعينها، يمكن اختزال هوية مصر فيها أو قصرها عليها وحدها في تجاهل لغيرها من الحقب التي لا تزال فاعلة، والتي يصنع مجموعها في تفاعله- رأسيا وأفقيا- هوية مصر التي لا تنفصل عن عبقرية مكانها. والمكون الأول والأقدم في هذه الهوية هو المكون الفرعوني الذي تعود بدايته تقريبا إلي سنة3150 قبل الميلاد، ولذلك نتحدث عن حضارة أربعة آلاف سنة، ويلحق بهذا المكون ما تخلله، أو لحق به من غزو فارسي استمر ما يقرب من قرنين، ودولة بطلمية أعقبتها دولة رومانية إلي سنة مائتين من ميلاد السيد المسيح. وظهر المكون الثاني وهو المكون المسيحي، ابتداء من سنة ميلاد المسيح واستمرت السيادة له إلي دخول الإسلام مصر في سنة ستمائة وأربعين ميلادية، وهو ما يمثل المكون الثالث، ولكن مجيء الإسلام إلي مصر لم يقض علي سكانها المسيحيين الذين ظلوا في وطنهم، يشاركون المسلمين العيش فيه، حتي بعد أن أصبح المسلمون هم الأغلبية، نتيجة من دخلوا الدين الإسلامي من جماعات وأفراد. ويأتي المكون الرابع وافدا مع الاحتلال الفرنسي علي مصر سنة1879، في موازاة تزايد الأثر الأجنبي الذي لا تزال الهيمنة فيه للغرب الرأسمالي باستعماره الاستيطاني( الكولونيالي) أولا، ثم استعماره الاقتصادي( الإمبريالي) الذي لايزال غالبا. هذه المكونات الأربعة موجودة فاعلة في الهوية المصرية، فلا تزال الآثار الفرعونية والبطلمية والرومانية موجودة، كما لا يزال تراثها المعنوي حاضرا في التراث الحضاري المصري، أو ما نسميه المأثورات الشعبية، بالإضافة إلي أن موضعها يدفع للاستلهام في الآداب والفنون. أما المكون المسيحي فهو حاضر بناسه، ماثل في وجود إخوتنا المسيحيين الذين يعيشون معنا في ظل مبدأ المساواة الكاملة الذي يؤكده معني المواطنة الذي ينفي أي شكل من أشكال التمييز الديني، أما نحن المسلمين فنعيش في مصر، مدركين أننا بعض مكوناتها وليس كل مكوناتها، مؤمنين أن الإسلام دين الأغلبية حقا، وله تراثه الحضاري المصري العظيم، وله مساجده التي نعمرها بالعبادة والحماية، كما ينبغي أن نحمي كنائس المسيحيين ونحترم من يعمرونها علي السواء. أما المكون الرابع والأخير فهو ماثل في كل شيء من حياتنا المادية والمعنوية التي استعنا علي تحديثها بما أخذنا عن غيرنا في كل شيء وكل جانب من جوانب الحياة المادية والمعنوية، فكل ما نضعه تحت عنوان الحداثة والتحديث هو آت من الضفة الأخري من البحر الأبيض المتوسط، ومن غيرها الواقع معها في عوالم التقدم التي لا تكف عن الحركة الصاعدة في آفاق التقدم، بينما لا نبارح نحن موضعنا من وهاد التخلف. ويقيني أن الحضور الآني لهذه المكونات يعني أن الهوية المصرية تقوم علي التنوع، وأن هوية مصر في كمالها غير قابلة للاختزال أو التجزئة. ولذلك يخطئ كل الخطأ من يذهب إلي أن هوية مصر إسلامية فحسب، أو مسيحية فقط، أو فرعونية لا غير، أو حتي إنها تنتمي لحوض البحر الأبيض المتوسط لا للصحراء، أو لأحواض بحور أخري. إن هوية مصر قائمة علي التنوع، وعندما تتفاعل عناصر هذا التنوع أو مكوناته تفاعلا إيجابيا، وفي صالح المجموع يصبح التنوع في الهوية المصرية تنوعا خلاقا يضع مصر نفسها في طريق التقدم، محققا لشعبها كل ما يحلم به من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية واستقلال وطني، الأمر الذي يقود إلي اللحاق بركب التقدم والعكس صحيح بالقدر نفسه، فعندما نقصي قسرا مكونا أو أكثر من مكونات الهوية المصرية، ونعلي من شأن مكون بعينه، نختزل فيه كل حضور الهوية المصرية، فالنتيجة لابد أن تكون وخيمة، ويتحول التنوع الخلاق للهوية إلي تنافر عدائي بين المكونات، ومن ثم بين من يمثلونها علي أرض الواقع، فيتحول الإخوة المتعاونون في النهوض بالوطن إلي إخوة أعداء يعملون علي تقويض هذا الوطن وتدميره. ولقد شهدت مصر لحظة تاريخية مجيدة من لحظات التنوع الخلاق في الهوية. وهي لحظة ثورة1919 التي رفعت شعار الدين لله والوطن للجميع، فكانت النتيجة أن اشترك أقباط مصر ويهودها ومسلموها في وضع دستور1923 علي أحدث النظم السياسية وأكثرها تقدما في العالم الغربي، وكان ذلك في موازاة أعظم الاكتشافات الأثرية التي أظهرت عظمة الأصل الفرعوني، ودفعت سيد درويش إلي تلحين كلمات بيرم التونسي: أنا المصري كريم العنصرين بنيت المجد بين الأهرمين جدودي أنشأوا العلم العجيب ومجري النيل في الوادي الخصيب لهم في الدنيا آلاف السنين ويفني الكون وهما موجودين وكان من نتيجة دستور1923 أن حصل الوفد بزعامة سعد زغلول علي الأغلبية في أول انتخابات بعد إقراره. ولم تعرف مصر، طوال عصرها الذهبي في الحقبة الليبرالية، ما يختزل هوية مصر في ركن دون غيره، بل كان الجميع يحرص علي أن تبقي صيغة التنوع صيغة فاعلة ناجحة، تحرسها وتصون تنوعها الخلاق دولة مدنية حديثة وديمقراطية واعدة. ولم تختل صيغة التنوع الخلاق إلا بعد أن تدخلت عوامل داخلية وخارجية بالشر الذي يتزايد تهديده لوحدة التنوع الخلاق. وبدأت كوارث الشر باستبداد الملك فؤاد وتحالفه مع الاستعمار البريطاني القديم. وكان كلاهما- فؤاد وابنه- يجدان العون من جماعة الإخوان المسلمين التي كانت متعاونة- بدورها- مع الاحتلال البريطاني. وقد عاود الشر هجومه مع استبداد مبارك بعد السادات، من خلال التعاون مع جماعة الإخوان المسلمين برعاية الولاياتالمتحدة- إمبراطور الشر الجديد- التي أوصلت الإخوان لحكم مصر، والتي لا تزال تناصرها كي تعود إلي الحكم مرة ثانية. والهدف من ذلك كله تدمير صيغة التنوع الخلاق، واختزال حضور مصر متعددة الصفات ومتنوعة الأوجه، في وجه واحد يلغي تنوعها الخلاق، ويحول بينها وتحقيق حلم الدولة المدنية بوصفها الحافظ لهذا التنوع الخلاق. ولكن هذا الهدف لن يتحقق; حيث إن عبقرية المكان تعدي بسحرها مكوناته كلها، فتتضافر هذه المكونات وتتآزر رغم قوي الظلام، ورغم لحي هؤلاء الذين لا يحترمون السلام الوطني، ولا يعترفون بقيمة المواطنة، ولا يعرفون معني للمبدأ العظيم الذي هو لحمة التنوع الخلاق لهوية مصر وسداها لبناء دولة مدنية حديثة آتية بإذن الله. "الأهرام"