اعتبر المفكر والكاتب عمر أزراج، أن ما حدث في الخامس أكتوبر من سنة 1988، كانت حصيلة الإخفاقات الكبرى التي عرفتها الجزائر، وعلى رأسها الفشل في بناء دولة التعددية الثقافية والسياسية ووجود حزب واحد في ذلك الوقت بالإضافة إلى طمس كل الأصوات الأخرى، الأمر الذي أدى إلى حدوث "انفجار" الثمانينات، كما تحدث أزراج في حوار ل"الشروق" عن خلق الدولة للتيار الإسلامي لمواجهة التيار الشيوعي ودعاة الانفصال عن الجزائر في ذلك الوقت وكيف تحول هذا التيار الذي صنعته السلطة إلى عدوِّها اللدود بعد أن حاولت أن تطبِّق عليه سياسة التضييق. *هل لك أن تسرد لنا ما وقع بالضبط في أحداث أكتوبر 1988؟ - لم أعش حرارة تلك الأحداث، ولكنني عشتها من الخارج بعد أن غادرت إلى بريطانيا سنة 1986. * ولكن من المؤكد أنك تملك معلومات وتحليلا حول أسباب اندلاع تلك الأحداث؟ -أحداث أكتوبر التي وقعت في الثمانينات كانت حصيلة الإخفاقات الكبرى التي عرفتها الجزائر وفي مقدمتها الفشل في بناء دولة التعددية الثقافية والسياسية ووجود حزب واحد في ذلك الوقت مقابل طمس كل الأصوات الأخرى وهذه إحدى أهم المشاكل التي أدت إلى حدوث "انفجار" الثمانينات، والى جانب ذلك أجد أن التحول السريع الذي حصل في الجزائر، ويتعلق الأمر بالانتقال من نظام كان يسمى ب"الاشتراكي" إلى نظام مُناقض تماما وهو النظام "الرأسمالي"، واعتقد أن هذه النقلة غير الطبيعية خلقت هزة في ضمير الجزائري، خاصة في ظل سياسة الطمس التي كانت تُمارس على أي حركة سياسية علنية، أذكر أنني كنت في ذلك الوقت عضوا في اللجنة الوطنية الفرعية لإعادة صياغة الميثاق الوطني ولكن بعد هذه الصياغة وبعد مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني تمت تصفية ما كان يسمى ب"اليسار" في هذا المؤتمر وفتح الطريق واسعا لإنهاء مرحلة بومدين بكاملها. *وكيف ساهمت هذه الأحداث في بلورة انتفاضة 5 أكتوبر 88؟ - أعتقد أنها شكلت نوعاً من الصدمة لدى الجزائريين، وفضلا عن ذلك فإن الحركة البربرية التي كانت تطالب بحقوق ثقافية ولغوية لم تجد شيئا ملموسا، باستثناء ذكر الأمازيغية في الميثاق الوطني كرُكن من أركان الهوية الوطنية الجزائرية دون تحقيق مطالبهم الحقيقية. * يقال إن أحداث أكتوبر 88 مهدت لظهور الإسلاميين، ما رأيك؟ -في ذلك الوقت كان يوجد ما يسمى "الباكس" وهو الحزب الشيوعي الجزائري الذي كان يعمل في السرية، وفي نفس الوقت كانت هناك الحركة البربرية التي كانت تعمل هي الأخرى في السر، هاتان الحركتان وحركات أخرى كانت تشكل نوعاً من القلق للسلطة فكان رد فعلها هو تشجيع ظهور الإسلاميين سواء في الجامعة أو بخلق منظومتين للتعليم، التعليم الأصلي والشؤون الدينية والتعليم العادي المتعارف عليه، وكان كل هذا يُحرك بطريقة معينة حتى تضمن السلطة أنها صاحبة القدرة الكلية على تحريك الأوراق وضرب الخصوم بتيار جدي وهو التيار الإسلامي. *هذا يعني أن السلطة هي التي خلقت التيار الإسلامي، الذي أصبح عدوها اللدود فيما بعد؟ -السلطة هي التي خلقت التيار الإسلامي لضرب الشيوعيين والحركة البربرية التي كانت تسعى إلى الانفصال، كل هذه الطبخة فشلت عندما كبُرت الحركة الإسلامية وصارت قوية وعندما خرجت وأصبحت تطالب بالاعتراف بها وبوجودها ككيان وبحقها في إدارة شؤون البلاد، هذه الخلفية وما قبلها من أحداث كلها ساهمت في خلق التوتر في الجزائر، الأمر الذي أدى إلى انفجار الأوضاع، بالإضافة التي الصراعات التي كانت تعيشها الجزائر منذ عهد الاستعمال الفرنسي واستمرت إلى بعد الاستقلال والمتعلقة بالصراع حول السلطة، وهو المشكل الحقيقي الذي واجهته الجزائر ومازالت تواجهه، فكل فريق يسعى للانفراد بها على حساب وجود مشروع وطني في ميدان التنمية بكل أشكالها وفي ظل غياب ثقافة سياسية متحضرة ومتمكنة وهو الأمر الذي لا يزال قائما إلى يومنا هذا؛ ففي الماضي لم يكن يُسمح بالتعددية السياسية والآن بعد السماح بالتعددية الحزبية وتشكيل الأحزاب ما يزال الوضع قائما وإن كان بأقنعة مختلفة والدليل على ذلك أن الأحزاب السياسية الموجودة في الجزائر هي مجرد واجهة والهدف الأول منها هو تسويق فكرة أن الجزائر بلد التعددية الحزبية والسياسية، ولكن هذه الأحزاب في نهاية المطاف لا تحكم في الحقيقة وليست معارضة أيضاً، بل تُستعمل حاليا كديكور خارجي وشغلها الشاغل هو تبرير الوضع السياسي القائم لا أكثر ولا أقل، إذا كانت الجزائر في عهد الشاذلي بن جديد قد عاشت فراغا سياسيا هائلا فإنما الآن نعيش فراغا سياسيا مخيفا، وهذا الفراغ السياسي الذي أتحدث عنه هو نتيجة لعدم إيمان هذه الأحزاب بأي مشروع وبأي فكرة. وللأسف الخلاف الآن هو خلاف حول ترشح الرئيس لعهدة رابعة أم لا، هذه الأحزاب لا تملك أي مشاريع لتقديم تصورات المشاريع وحلول للمشاكل الاجتماعية التي تنخر الجزائر مثل البطالة وعدم تناسب الدخل مع الأسعار التي ترتفع باستمرار سواء تعلق الأمر بالمواد الغذائية أو الإيجار، بعد أن أصبح الجزائري خاضعا لقوى تتحكم في حياته وهناك مشكل آخر كبير لم تحله الأحزاب كذلك، وهو مستوى المنظومة التعليمية في الجزائر المهزومة والمتخلفة، استغرب غياب مشروع لإعادة ترتيب البيت التعليمي الجزائري سواء في الطور الابتدائي أو بقية الأطوار التعليمية الأخرى وحتى الطور الجامعي. * ذكرت قبل قليل أن أحداث أكتوبر فتحت الطريق لإنهاء مرحلة بومدين، ماذا تقصد بحديثك؟ -نظام بومدين لم يكن ديمقراطيا وإنما كان نظاما عسكريا أمنيا يستخدم حزب جبهة التحرير الوطني كواجهة لا أكثر، وأقصد أن في عهده لم تكن هنالك تعددية سياسية ولا جمعيات مجتمع مدني تملك الحرية في نقد أوضاع البلد ولم تكن في عهد بومدين صحافة حرة، وكل هذه الحصيلة كانت ثقيلة جدا على الانسان الجزائري الذي كان ينشد الحرية والازدهار الاقتصادي في بلد غني ويملك كل المؤهلات لأن تكون "يابان" المغرب العربي، لكن فشل كل تلك الآمال جعلت الجزائري لا يؤمن بالسياسيين ولا بالحكام ولا بالدولة. * يقال أن ما حدث كان نتيجة خروج الصراع الذي نشب بين تيار الشاذلي بن جديد وتيارات أخرى في الجيش وجبهة التحرير، ما رأيك؟ -أنا لا أفسر التاريخ بتناقضات الأشخاص وخلافاتهم الشكلية، أنا أقيس هذه الأحداث بعدم نضج الثقافة الجزائرية وبعدم خلق ثقافة جزائرية ديمقراطية تؤمن بالشراكة في الحكم وضرورة التداول عليه وتؤمن أيضاً بالوطنية الحقيقية والمواطنة الحقيقية، فالديكتاتورية هي نبتة ثقافية شرسة وأنا أرى أن الثقافة الجزائرية بدءا من تركيبة الأسرة إلى هرم الحكم، هي ثقافة الإلغاء والاستبداد والانفراد بالقرار ونحن نعيش الآن بعد خمسين سنة من الاستقلال نفس النمط الثقافي يتكرر في حياتنا، وأعطي مثالا برؤساء الأحزاب الذين نجدهم يتشبَّثون بمنصب الرئاسة لسنوات طويلة، على غرار لويزة حنون التي تحتكر رئاسة حزب العمال منذ 20 سنة، وكأنه لا يوجد داخل الحزب من هو قادرٌ على إدارته وكأنه لا يوجد من يخلفها على رأسه، وللأسف إذا حدث تغيير في هذه الأحزاب فلا يكون غالبا بسبب مشروع أو أفكار جديدة وإنما يحدث بسبب صراعات وخلافات شخصية كما هو الحال في جبهة التحرير، إذا لم يتغير أي رئيس حزب على خلفية إهماله لمصالح الشعب مثلا أو شيء من هذا القبيل، أعتقد أن القضية هنا هي قضية أشخاص، فالمضمون هو نفسه وهذه الأحزاب ميتة فكريا، وأحب أن أشير إلى أن حزب جبهة التحرير هو أكبر حزب انتهازي، بالأمس كان يرقص ل"الاشتراكية"، واليوم للرأسمالية وغداً الله أعلم، نفس الشيء عندما نتحدَّث عن حزب القوى الاشتراكية الذي فشل فشلا ذريعا في مقاومة الرأسمالية وفي تجديد الحزب وإعطاء الخصوصية الجزائرية له وبالعكس هذا الحزب المحسوب على الاشتراكية يرقص في الليل والنهار للرأسمالية، ولن استثني "الأرسيدي" من حديثي، هذا الحزب الذي أصبح حزبا منافقا، كان يرفع شعار اللغة والثقافة الأمازيغية وعندما اعترفت الدولة بالأمازيغية كلغة وطنية أصبحت تيزي وزو مفرْنسة الشوارع والمحلات ورأينا جموعا تعتنق المسيحية، إن هذا الحزب كان يتغطى بقناع الثقافة واللغة الامازيغية وهو في الحقيقة يريد أن يسترجع أمجاد اللغة الفرنسية وهي لغة المستعمِر سابقا، كما أن سعيد سعدي يناقض نفسه عندما يدعو إلى الديمقراطية لكنه بقي 19 سنة في الحزب الذي يترأسه، وعندما شبع من الأموال انسحب وصار يتجول في العواصم الأوروبية ويسيّر أملاكه، ومنذ أن انسحب لم نسمع له تعليقا ولا نضالا في الميدان. *هل كانت تلك الأحداث ربيعا حقيقيا على الجزائر والجزائريين؟ -أولا كلمة ربيع تعني أزهار الطبيعة أو ازدهار الانسان، أما ما حدث في الجزائر فلم يكن ربيعا أو ازدهاراً، بل كان انتفاضة للمهمشين والفقراء واليائسين من الوضع السياسي برمته، فكيف نسمي هذا ربيعا؟ وإذا كان ربيعا فعلا فماذا حقق؟ إن الجزائر في ظل هذه الأحداث لم تستطع أن تبني حتى مدينة واحدة محترمة أو تفتح طريقا بدون مطبات أو تبنى عمارة محترمة، ولم تحل لا مشاكل السكن والبطالة ولا مشاكل القطاع الصحي الذي يعاني الأمرين، ولم تحقق دولة الرعاية الاجتماعية الضامنة للاستقرار المادي والنفسي والمعنوي لكل مواطن ولم تلعب أي دور في محو الأمية المستشرية في البلد من أمية ثقافية وعلمية وقانونية وأمية حرفية فالناس لا تقرأ، الجزائري اليوم يعيش على ثقافة الجرائد، وما زاد الطين بلة أن الأحزاب المتواجدة في الساحة لم تفعل شيئا بل هي شاهدة زور على الأخلاق المنهارة في البلد وعلى الرشوة والبيروقراطية واختلاس الأموال الذي أصبح عادة طبيعية لا بد منها، من المفروض أن يكون للأحزاب دورٌ فاعل في المجتمع ولكن في ظلها أصبحت مدننا وقرانا قمامات ومزابل يعشش فيها البعوض، هم بعيدون جدا عن الجزائر وقريبون من مصالحهم الشخصية.